كنت قبل يومين أهم بالسفر خارج الوطن فإذا بي أخبر في موقع شرطة الحدود أنني ممنوع من الخروج، وعند مناقشتي الضابط الذي كلف بإخباري وجدته لا يعرف شيئا عن الموضوع سوى أنني ممنوع وأنه لا يعرف غير هذا.
لقد تأكد لدي بأن سبب منعي من مغادرة التراب الوطني له علاقة بالقضية الفلسطينية، وبغض النظر عن السبب وعن قضيتي الشخصية فإن هذا الإجراء الأمني المخالف للدستور والقوانين ولمبادئ الحقوق الأساسية للمواطن يدل على استخفاف السلطات بظروف ومصائر الناس، دون أي اكتراث بما قد يلحق المسافر من الأذى في مصالحه المادية والمعنوية والنفسية وربما الصحية والتعليمية وغير ذلك، وكذا مصالح من لهم علاقة به وبسفره.
وهو إجراء يدل كذلك على جرأة كبيرة في الدوس على الدستور والقوانين والأخلاق بمجرد الوهم من غير سؤال ولا حوار مع المعني وبدون أي احترام له كإنسان وكمواطن حر.
1 – أقوم بنشر الخبر بنفسي للرأي العام وملابساته وآثاره بعدما لم أفلح في حل المشكل عن طريق الاتصال بالجهات المعنية للأسف الشديد ولم أستطع استئناف سفري للوجهة التي كنت أريدها والقيام بأعمالي وفق برنامجي وتحقق الضرر الذي لحق بي.
علما بأن الخبر قد تم تداوله في عدة دوائر منذ وقوعه، وأؤكد بالمناسبة لمن يهمه الأمر بأنني لست متابعا قضائيا، وأثناء الليلة التي وقعت فيها مجزرة المستشفى الأهلي في غزة والتي خرجت على إثرها للشارع بشكل تلقائي دون تنسيق مع أحد ودعوت عبر هاتفي الناس للخروج لإظهار غضبنا كجزائريين ضد الصهاينة مثل غيرها من الشعوب في العالم أخبِرت رسميا بأنه لا توجد أي متابعة قانونية.
2 – يشرفني كثيرا أن أتعرض لهذا الاعتداء الرسمي بسبب مناصرتي للقضية الفلسطينية، وسعادتي لا توصف أنني أتحمل ضمن الملحمة التاريخية العالمية التي دشنها طوفان الأقصى هذا الجزء اليسير من الأذى الذي لا وزن له مقارنة بما يكابده أهلنا في غزة.
إن مواقفي في معارضة النظام السياسي التي تجعلهم ينتقمون مني بسببها كثيرة منذ سنوات، في مجال السياسة والحريات والاقتصاد ومكافحة الفساد، ولكن الحمد لله أن القضية التي اعتدي علي بسببها هي قضية مقدسة لا يختلف عليها الجزائريون.
3 – إن عملي للقضية الفلسطينية ليس جديدا ولا يوجد أي سبب للتحسس منه بخصوصي من قبل السلطات، فقد كنت الأمين العام لفرع مؤسسة القدس العالمية تحت رئاسة الشيخ شيبان والأستاذ عبد الحميد مهري رحمهما الله، وكنت رئيس الوفد الجزائري لأسطول الحرية وبعد خروجنا من السجن الإسرائيلي في فلسطين المحتلة بعد هجوم الجيش الصهيوني على سفينة مرمرة نقلتنا طائرة خاصة رسمية جزائرية من الأردن إلى الجزائر، وكنت رئيس الوفد الجزائري في قافلة شريان الحياة 5 الذي ضم أكثر من مائة فرد جزائري والعديد من القوافل بعد ذلك وكنت بخصوصها في اتصال دائم مع سفارتنا في مصر، وشاركت في مسيرة العودة التأسيسية الأولى في الأردن نحو الحدود الفلسطينية المحتلة، ونظمت وشاركت في مسيرات ومهرجانات لا تحصى لنصرة فلسطين في الجزائر وخارجها، وعلاقتي مع الفلسطينيين مكشوفة واضحة لا تخفى على أحد وأنا عضو في حركة جزائرية اسمها الأول “حماس” نشأت كجزء من مسيرة الأمة لتحرير فلسطين، ومن بلد اسمه الجزائر شعاره الخالد “مع فلسطين ظالمة أو مظلومة”، وأنا إذ أتعرض للأذى بسبب انخراطي في تحولات طوفان الأقصى فإن ذلك شرف لي أكثر من أي مساهمة سابقة بالنظر للتحولات التاريخية التي أنشأها هذا الطوفان المبارك، الذي كنت أستشرفه دون أي معلومات سابقة عنه، وتحدثت عن ضرورة تصعيد المقاومة لإنقاذ القضية الفلسطينية من الضياع أياما قليلة قبل وقوعه، ووقع كما كنت أتوقعه وثمة شهود على ذلك، فكيف لا أحتفي به وكان جزء من فكري ومشاعري كان متعلقا به قبل حدوثه.4 – كنت أثناء منعي من مغادرة التراب الوطني متجها إلى الدوحة وماليزيا، وكان برنامجي في الدوحة هو زيارة مجاملة وتهنئة للقائد هنية والقيادة الفلسطينية في اليوم الموالي، وبعدها القيام باتصالات لإبرام اتفاقات شراكة لعقد المؤتمر الدولي السابع لمنتدى كوالالمبور الذي سيعالج الانهيار القيمي والأخلاقي في العالم، وسيركز على انهيار القيم الأخلاقية للدول الغربية تجاه المحرقة الجارية في غزة، بمشاركة شخصيات من مختلف أنحاء العالم من المسلمين وغير المسلمين، ومن ذلك الالتقاء وفق مواعيد مضبوطة مع عدد من العلماء على رأسهم الشيخ الددو والشيخ الصلابي.
وأما في ماليزيا فكنت سألتقي مع الدكتور مهاتير رئيس منتدى كوالالمبور لمناقشة المؤتمر وقضايا المنتدى بصفتي الأمين العام، بالإضافة إلى لقاءات أخرى مهمة مع العديد من الشخصيات حول قضايا المسلمين والقضية الفلسطينية، علاوة على ندوة كنت سأقدمها عن كتابي ” الاستنهاض الحضاري وتحدي العبور”.
وقد اتصل بي من كان لي معهم مواعيد للسؤال عن تأخري فلم أخبرهم بعد، وبالرغم من أن سبب منعي مخجل سأضطر لمراسلتهم بعدم قدرتي على السفر.
5 – هذا التضييق يدل على أنني أصبحت مستهدفا بشكل مباشر من النظام السياسي وقد أقدم على هذا التجاوز الظالم ضمن سياسة التحكم في الجميع المتبعة من قبل، وبغرض العزل السياسي المتعلق بالتحولات الجديدة، وبالاعتماد على حالة الركود السياسي والحقوقي العام في البلاد، وبالنظر أنه لا توجد قوة خارجية تسندني على غرار ما تفعله فرنسا وأمريكا والدول الأوربية حين يتم التضييق على أصدقائهم وحلفائهم أو عملائهم من النشطاء السياسيين الجزائريين، بل إن سبب التضييق عليّ المتعلق بالقضية الفلسطينية سيجعل هؤلاء الغربيبن يسعدون بذلك، وقد سبق لهم التحريش ضدي عبر أحد وكلائهم كما قد أبينه لاحقا، ولكن ثقتي في الله كبيرة وتوكلي عليه عظيم، وسأبقى أكافح من أجل ما أؤمن به بأنه حق ولو كنت وحدي ولا يصيبنا إلا ما كتبه الله لنا والأيام دوّارة، والله سبحانه أقوى من الظالمين جميعا، وحسبنا مولانا عز وجل وهو نعم الوكيل.
وصدق الله تعالى إذ يقول: ” إن الله يدافع عن الذين آمنوا، إن الله لا يحب كل خوان كفور”.
6 – إن هذا المستوى من تكميم الأفواه ومنع الحريات لم أر مثله من قبل، رغم طول سنوات النضال في العمل السياسي، فقد خرجنا في مسيرات في الشوارع منذ بداية التعددية دون ترخيص في وقت الإرهاب وفي ظروف أمنية أخطر بكثير من أي وقت، ووقع التدافع بيننا وبين رجال الأمن في الشارع، دون أي حقد ولا ضغينة، فلم يُحاسب أحد ولم يتابع أحد ولم يُمنع أحد من السفر .
لقد خرجنا للشوارع دون ترخيص في زمن زروال وبوتفليقة، ضد التزوير، ومن أجل العراق، وتضامنا مع غزة والمقاومة، وضد العهدة الرابعة، وضد الغاز الصخري وضد الإساءة لرسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يتم التصرف مع أي كان بالشكل المعمول به حاليا في هذه الفترة.
7 – لم أتوقف أنا شخصيا عن نقد بوتفليقة بأقوى العبارات، واتهمت نظامه بالفساد والفشل وتخريب البلد، وحين أغضبته مُنعت شخصيا من التلفزيون الرسمي ولم أمنع من القنوات الخاصة ولم أمنع من السفر، بل قمت بنقد القايد صالح ذاته رحمه الله، ومن قبل قمت بنقد المخابرات والجنرال توفيق، وكل تصريحاتي موثقة إلى الآن في الوسائط الاجتماعية ولم يقم أي واحد من هؤلاء الرجال الأقوياء بمنعي من السفر، ورغم انزعاجهم من توجهي السياسي كانوا جميعا يدركون بأنه ليست لي أي حسابات شخصية وأتحرك بقناعتي من تلقاء نفسي وأنهم ليسوا وطنيين أكثر مني.
8 – يجب أن نقول بكل وضوح بأن هذه المرحلة هي أكثر المراحل تضييقا للحريات، سياسيا وإعلاميا واقتصاديا ومجتمعيا، وأن هذا التضييق الذي تجاوز الحدود لا يدل على قوة السلطة الحاكمة ولكن على ضعفها، وأن البلد سيضعف معهم بتصرفاتهم هذه، وأن قمع الحريات مهما اشتدت ومهما كان ضحاياه لن يدوم، وإنما يُسجّل بأسوء الذكريات باسم أصحابه عند الله وفي التاريخ، المستبدين منهم والمناضلين والساكتين.
ملاحظة في الأخير: قال لي بعض الأصدقاء لو تمتنع عن الحديث في وسائل الإعلام أفضل.
فقلت لهم لا يوجد شيء أفضل مع النظام السياسي الجزائري، تتحدث مشكلة وتسكت مشكلة، إذا الأفضل أن أتحدث حتى يسمع الناس مني ولا يسمعون عني ولعل ذلك يساهم في وعي الناس.
وأنا مطلع على تجارب من قبلي سكتوا فقتلهم النظام السياسي سياسيا في صمت، من هؤلاء عبد الحميد مهري، منذ أن انقلبوا عليه وهو ساكت فلم ينفع صمته ومات بغيضه، وأصبح حزبه متحكما فيه من خارج مؤسساته، وبعده الشيخ محفوظ دمروا حياته السياسية منذ أن أصر على الترشح للانتخابات الرئاسية عام 1999، طعنوه في تاريخه وحاصروه ثم أضعفوه في الانتخابات التشريعية عام 2002، فمات بغيضه في صمت، فلم يتكلم عن أوجاعه وغضبه من النظام السياسي إلا معنا في محيطه الضيق، وكانت النتيجة أنه أصيب بالعديد من الأمراض ومات وعمره 61 عاما (أقل من السن الذي أنا فيه)، وضعف حزبه بعده وانقسم إلى عدة أجزاء، وبقي النظام السياسي، في المقابل، يكرر تجارب الفشل والفساد ويُغرق البلد في التخلف إلى أن وصل إلى الحضيض الذي ثار عليه الحراك الشعبي، وذهب سكوتهم وتضحياتهم سدا من هذه الزاوية.
وهذا النهج السياسي الذي أسلكه – ليس من اليوم فقط – بكل إيمان ومسؤولية، هو الذي نفع الحركة التي كنت على رأسها، ونفع الفعل السياسي في الجزائر.
وحتى وإن لم يكن في الوقوف مع المبدأ أي كسب مرحلي وكانت فيه تضحيات فذلك هو الصواب وحسن العاقبة في الدنيا والآخرة.
عبد الرزاق مقري.