في هذا اليوم تمر 59 سنة على استقلال الجزائر، والاستقلال نعمة عظيمة يُحمد عليها الله تعالى، ويشكر عليها الشهداء والمجاهدون الذين فجروها وحاربوا الاستعمار البغيض حتى دحروه وأخرجوه. واستقلال الجزائر ليس كاستقلال الدول المستعمرة الأخرى،
كثير من الدول التي استُعمرت، خصوصا التي ابتليت بالاستعمار الفرنسي، ضيعت هويتها كلية واندمج كل سكانها في ثقافة المستعمر بعد الاستقلال وأصبحوا يسيرون في فلكها وانتقلوا تقريبا من نظام الاستعمار المباشر إلى نظام الحماية الاستعمارية. أما الجزائر فإن الانتماء الوطني على نهج ما قرره القادة المؤسسون في بيان أول نوفمبر بقي قويا غالبا على المستوى الشعبي ومقاوما على المستوى الرسمي. وذلك بالرغم من أن الاستعمار الفرنسي أفلح في ترك وإنشاء طوابير من المستلبين والعملاء داخل مؤسسات الدولة وفي المجتمع الذين انصهروا في ثقافة المستعمر وصاروا خداما لمصالحه، بل بعضهم أصبح سلاحا للابتزاز وضرب الاستقرار والوحدة الوطنية كلما مرت اللغة والثقافة والمصالح الاستعمارية بمصاعب جدية. إن هذه النعمة على نقصها تتطلب حقيقة شكر الله ليل نهار، ومهما قدمنا من المدح والتبجيل للشهداء، والمجاهدين الصادقين الثابتين لن نوفهم حقهم، وسيبقى حقهم العادل الكامل عند الله يوم القيامة.
غير أن مدة تسع وخمسين سنة طويلة جدا بالنسبة لانتظار نهضة البلد وازدهاره وتقدمه وتطوره وتحقيق استحقاق التنمية ورغد العيش للمواطنين منذ الانفصال عن الاستعمار إلى اليوم.
إن الفرص الضائعة لتحقيق الإقلاع كثيرة ومتكررة، وسببها كلها واحد: الهيمنة والاستبداد والفوقية والأبوية وعقلية التحكم باستعمال أدوات الإكراه العظيمة التي تملكها الدولة.
لقد كانت الفرصة الضائعة الأولى والأهم غداة الاستقلال حينما تغلبت قوة السلاح التي ملكتها قيادة الأركان باسم الثورة على الحكومة المؤقتة وقادة الداخل الذين كانوا يقودون الثورة، ثم إبعاد وتصفية كل شركاء السلاح بعد ذلك. ثم كانت الفرصة الثانية الأكبر في 05 أكتوبر 1988 حين اتضح إفلاس خيار الحزب الواحد والأيديولوجية الاشتراكية المفروضة، حيث تم التآمر على الانتقال الديمقراطي بمختلف أنواع الدسائس وحينما لم تفلح تم إلغاء الانتخابات الشرعية سنة 1991 التي كان من الممكن أن تصحح كل الاختلالات وتعالج كل نوازع التطرف عند الجميع كما حدث في تجارب مماثلة في العالم. ثم كانت الفرصة الثالثة الأوضح التي بدأت بتزوير انتخابات 1995 التي عبر فيها الجزائريون من خلال مشاركة انتخابية قياسية على استعدادهم للتعامل مع الخيار المؤسسي فتم تزوير الانتخابات وتكررت ذات الفرصة بمشاركة انتخابية مقبولة جدا في الانتخابات التشريعية والمحلية سنة 1997 ولكنها زورت هي الأخرى بشكل أفضع أدى إلى إحباط عام لدى الجزائريين. ثم جاءت فرصة رابعة متميزة، قبل فيها زعماء الوطن كلهم إحياء الأمل بالمشاركة في الانتخابات الرئاسية سنة 1999 فمُنع أكثرهم حظا من الترشح واضطر جميعهم إلى الانسحاب من الترشح حينما اتضحت ألاعيب التزوير مسبقا. وبعد ذلك أصبحت كل الانتخابات من 2002 إلى 2017 مواعيد للمقاومة السياسية بالنسبة لبعض الجزائريين ومواعيد لإظهار الرفض بالمقاطعة بالنسبة للبعض الآخر.
لقد كانت النتيجة الإجمالية لهذا العبث الطويل المتجدد هو تبديد ثروات البلد، وتقوية اقتصاد الاستعمار القديم، والفساد المعمم، وسيطرة عصابة لا تؤمن بالوطن رغم تشدقها بالوطنية، لا ضمير ولا أخلاق لها تحكمت في كل مفاصل الدولة وأخضعت لها الإدارة والمؤسسة العسكرية والأمنية والقضاء والمؤسسات الإعلامية وأغلب الأحزاب ومنظمات المجتمع المدني. وفي ظل حكم هذه العصابة تأخرت الجزائر عن ركب التطور وتحولت من دولة ريعية وافرة المداخيل إلى دولة تطبع الأوراق النقدية دون رصيد من ذهب أو إنتاج لتبقي نظام الحكم مستمرا ولو على حساب مصير الدولة والمجتمع مستقبلا، في نفس الوقت الذي تطورت فيه بلدان في أوربا وآسيا وأفريقيا وأمريكا الجنوبية كانت أقل منا اقتصاديا وعلى مستوى الهياكل والموارد. أمام هذا الإفلاس لم يصبح التشدق والغرور والمن الذي غُدر به الشعب الجزائري لسنوات طويلة مقبولا عند الأجيال الجديدة كمكتسبات التعليم (الذي يتدهور أكثر فأكثر) والصحة (التي تعاني الأزمات وتدفع بالقادرين إلى التطبب في بلدان أخرى)، وبعض الهياكل وإنجازات البحبوحة المالية (التي أنفق فيها أضعاف وأضعاف ما تستحقه تلك الإنجازات)، لم يصبح هذا الحديث الممجوج عن الإنجازات مقبولا عند الأجيال الجديدة المطلعة على ما يحدث في العالم الإسلامي الذي ننتمي إليه كتركيا وماليزيا وإندونيسيا وإيران وباكستان وغيرها، أو الدول التي كانت ضمن النمط الاشتراكي مثلنا كالصين والفيتنام وبولونيا وأثيوبيا والبرازيل، أو حتى بعد الدول التي كانت غاية في الفقر والتخلف والأزمات كبوتسوانا وروندا وغيرها. لقد نجحت كل هذه الدول وأخفقت الجزائر رغم إمكاناتها العظيمة. وحتى الدول التي بقيت على نمط الحزب الواحد كالصين والفيتنام استطاعت أن تطور توجهاتها السياسية ببناء تدافع الأفكار والمصالح والانتخابات الحقيقية ضمن الحزب الواحد أفضل بكثير من ديمقراطية الواجهة والتعددية الشكلية التي بقيت تنخر في بلادنا جسم المجتمع والدولة وتدمر الكفاءات وتطحن الشخصيات والأحزاب والمنظمات ذات الكفاءة والنزاهة التي لا تقبل السير في ركب الزبونية والانتهازية.
ثم كانت الفرصة الأخيرة الأقوى والأبرز التي سمع بها وأشاد بها العالم بأسره، وهي فرصة الحراك الشعبي في 22 فبراير 2019 التي استطاعت أن تفضح العصابة وتوقف استغوالها وأن تدخل جزء منهم السجون، ولكن سرعان ما اتضح بأنها فرصة تتجه نحو الضياع مرة أخرى، رغم زخم ثورة الشارع السلمية العظيمة التي تجاوز المشاركون فيها خمسة عشر مليون متظاهر صمدوا أكثر من سنة. لقد تم فعليا قتل هذه الفرصة إذ رجعت الجزائر إلى عهد التزوير الانتخابي وهيمنة القوى المتغلبة وشبكات الزبونية، ومرة أخرى تكون الضحية هي تطوير وتنمية البلد وتحسين معيشة المواطنين التي يطمع النظام السياسي أن يضفي بها على نفسه الشرعية المنقوصة التي بقي يعاني منها، متناسيا بأنه لا نجاح في المجال الاقتصادي دون بسط الثقة في المجتمع والتي لا طريق لها سوى الرؤية السياسية التوافقية المجنِّدة لكل الطاقات على أساس الشرعية الانتخابية التامة.
لقد بقيت مجهودات التنمية تدور في حلقة مفرغة إلى الآن تدل عليها المؤشرات المعلنة رسميا كانكماش النمو الاقتصادي، وارتفاع نسبة البطالة التي تدور في حدود 13 % في 2020، والتي بلغت 23 % عند خريجي الجامعات، و27 % وسط الشباب، وكعجز الموازنة الذي تجاوز 24 مليار دولار، وانخفاض قيمة الدينار ب 20% .
مع ارتفاع كبير لأسعار المواد الاستهلاكية وأزمات الأسواق المتعددة كأزمة الحليب وأزمة الزيت، وأزمة الماء، وأزمة السيولة، وأزمة سوق السيارات، وعدم قدرة برامج السكن الواسعة على حل أزمة السكن، مع تصاعد الاضطرابات الموضعية والإضرابات، وكل هذا في ظل ضخامة التحويلات الاجتماعية ودعم الأسعار التي لن تكون ممكنة في آجال قريبة بسبب نفاذ الريع حيث احتياطي الصرف في حدود 42 مليار دولار دون القدرة على رفعه كما تم الوعد به خلال سنة، علما بأن السبب الجوهري لأزمة مداخيل المحروقات ليست الأسعار كما يعتقد البعض ولكن بسبب تراجع الإنتاج وارتفاع الاستهلاك المحلي. وكل هذا دون أي رؤية سياسية مستقبلية جامعة ولا أي أفق لانفجار عدد المؤسسات الاقتصادية في الفلاحة والصناعة والخدمات في آجال قريبة أو متوسطة بما يحررنا من التبعية للمحروقات، ومما يزيد في المخاوف اللجوء مرة أخرى إلى طباعة النقود ابتداء من شهر جويلية رغم تعهد السلطات بالتوقف عن هذه الآفة التي ستقضي على ما تبقى من القدرة الشرائية بارتفاع معدلات التضخم، ثم في الأخير العودة إلى المديونية مجبرين مهما كانت التصريحات الشعبوية بعكس ذلك، ضمن ظروف اقتصادية ومالية واجتماعية وسياسية صعبة ستكون المديونية فيها هي عنوان نهاية السيادة لا قدر الله.
لقد كانت الانتخابات التشريعية في 12 جوان هي الفرصة الأخيرة المعبرة عن مرحلة ما بعد الحراك ولكن للأسف الشديد كانت هي الضربة الأخيرة للقضاء على مشروع التوافق الوطني من أجل رؤية سياسية واقتصادية تنقذ ما يمكن إنقاذه، ونخشى أن ندرك في السنة المقبلة الذكرى الستين ويكون الوهم قد تأكد أكثر بأن المقصود في الرؤية السياسية والاقتصادية الرسمية إنما هو استهلاك ما تبقى من احتياطي الصرف وما فضل في مختلف الصناديق ثم تُترك الجزائر إلى مصير أكثر خطورة نسأل الله تعالى فيه العافية .
ولكن … مهما كانت هذه الفرص الضائعة منذ 05 جويلية 1962 سيبقى الأمل معقودا على الشباب الذين نحتفل بعيدهم بمناسبة عيد الاستقلال لمواصلة النضال من أجل خلق فرص أخرى تعتمد على القدرات البشرية والعبقرية الجزائرية التي ستتفجر يوما ما حينما تتوفر الحرية السياسية والاقتصادية التامة التي يُستكمل بها الاستقلال في الجوانب المنقوصة مما نص عليه بيان أول نوفمبر “دولة جزائرية ديمقراطية شعبية اجتماعية ذات سيادة ضمن إطار المبادئ الإسلامية”.
د. عبد الرزاق مقري
الجزائر في: 05 جويلية 2021