من دلائل الوعي والرشد في الأحزاب والنخب السياسية المُصلحة أن تحدد جمهورها بدقة، فتعرف من الذي معها فتبني سياساتها معه وتوجه خطابها له وتراهن في كل شي عليه، ومن ليس جمهورها فلا تهتم به إلا من باب حفظ البيضة ودفع الشبهة. ومن إيجابيات تحديد الجمهور التركيز والاقتصاد في الوقت والجهد وعدم التردد وتشتت الذهن أثناء العمل.
في هذا المقال سنبدأ بتعريف من ليس جمهورنا، ثم نبين من هو كذلك:
– ليس جمهورنا صنف من الناس انتهازيون، طلاب المصالح الشخصية، أصحاب لغة الخشب، الذين يتحدثون عن مصلحة الوطن وهم عاهته، يُظهرون حرصهم عن استقرار البلد وكل أفعالهم خطر عليه، شِلل من الخلق يعرف بعضهم بعضا، يتعاضدون قبل تحقيق الغنم، فإن لاحت الغنيمة قاتل بعضهم بعضا كالضباع الضارية، كلما لاحت تطورات جديدة سألوا عن شخوصهم فحسب، ما الذي يجنونه ويكسبونه لذواتهم لا غير، يخادعون السذج من الناس، ولكن الوطنيين الصادقين المجربين يعرفونهم بتاريخهم، ومن لحن قولهم وتقاسيم وجوههم، يتكبرون على من دونهم ويعبدون من فوقهم، ينزعون إلى الخلاف والشقاق حسب مصالحهم وما تهواه أنفسهم.
– ليس جمهورنا المتأزمون، المتنطعون، الحاقدون، الانتقاميون، الحاسدون الناس على ما آتاهم الله. ليس جمهورنا المستعجلون، السبابون، الشتامون الذي لا يعجبهم أحد ولا يؤنسهم شيء، ليس جمهورنا الذين يأملون أن ينهار كل شيء حتى يكون الناس سواء في الخسران والعياذ بالله، ليس جمهورنا الذين يبالغون في الرفض والصد ما لم تكن فرصة، فإذا طابت لهم الظروف أوغلوا في الرتع واحتبس من خطيبهم الشدق فلا ينبس ببنة شفة.
– ليس جمهورنا العابدون خصومهم، الذين لا موقف لهم في الحياة سوى العناد ومخالفة من لا يحبون أو يحسدون، بلا هدف ولا رؤية ولا عزيمة على البر والتقوى. أولئك الذين سماهم علماء الإدارة أصحاب ” الموقف بالخصومة”، إن قال خصمهم هو أبيض قالوا إنه أسود وإن قال أسود قالوا هو أبيض، حتى لكأن خصيمهم يملي عليهم ما يريد إذ يأتي بهم حيث أراد بموقف منه يخالفوه كما يشاء.
– ليس جمهورنا الحياديون، الفردانيون في مقصد الخلاص، الأنانيون في فكر النجاة، الذين يتراجعون إلى رحالهم الأقرب فالأقرب كلما اشتدت الخطوب حتى، فلربما يضحي الواحد منهم بأهله وولده، حين يتهيأ له بأن المركب لا يسعه إلا هو. ليس جمهورنا السذج من الناس الذين تنطلي عليهم الوعود الكاذبة فيذوقون السم الزعاف مرات ومرات من ذات الكأس فلا يبصرون. ليس جمهورنا القاعدون في أرائكهم ينتظرون كيف تنتهي المعركة، الفضوليون على قارعة الطريق يتفرجون فلا يتأهبون، ولو وصلتهم شذايا المعارك من حولهم فيتألمون ولا يفعلون.
ليس جمهورنا العملاء الذين يخدمون مصالح الأجانب من حيث دروا أو من حيث لا يدرون، أولئك الذين ربطوا مصائرهم بدول ومجتمعات وثقافات أجنبية وكل ما في هذا الوطن يزعجهم ويقززهم، بعضهم عملاء أصالة وبعضهم ثقافة إذ هواهم كلهم في آخر التحصيل للأجنبي الذي بالأمس استعمرهم وأذلهم، ليس جمهورنا الذي يتحسس من الإسلام ويحب سائر الملل، قلبه وعقله تطحنها عقد وعقد وعقد، لا تنفك أبدا في كره هذا العرق أو ذاك في وطنه، في عصبية آثمة مقيتة تجذبه إلى أدنى الدركات الإنسانية وهو لا يدري، ولربما كره أصله بلا وعي، فلا يرى له مستقبلا دون تبعية المستعمر المستعلي المتجبر.
ليس خطابنا وخططنا ومسعانا لهؤلاء أبدا، لا نحسب لهم حين نتحرك، ولا يهمنا أمرهم، ولا يؤثر فينا فعلهم ولا رد فعلهم، لم يكونوا معنا يوما لنحزن عنهم، ولا نأمل فيهم لنتعب أنفسنا بشأنهم …. هم من يجب أن يتغير … وإن تغيروا تغيرنا تجاههم.
– أما جمهورنا فهم أولئك الملايين من الجزائريين العاديين الذين نلقاهم في حلنا وترحالنا في أحياء هذا الوطن الفسيح، في الشوارع، في المساجد، في المقاهي، في الأسواق، في المطارات، في المناسبات، أؤلئك الجزائريون العاديون، الطيبون، الواعون، الذين يسمعون الحديث ليَفهموا ويتحدثون ليُفهموا، أولئك الذين يدركون المخاطر التي تهدد الجزائر حقيقة الإدراك، فتتوجه أفئدتهم وعقولهم للحلول الحقيقية التي تخرج البلد من أزمته ولو لم يكن لهم نفع فيها مباشر.
– جمهورنا هم أؤلئك الذين يتعلقون بالأمل فلا ييأسون، يسندون الفعل الإيجابي ولا يملون، يحسنون الظن بالناس ما لم يظهر لهم زلل لهم عليه دليل وبرهان فينصحون بلا شتيمة أو يعيبون بلا شماتة. يحبون وحدة الصف، وتآلف القلوب. قلوبهم سليمة يفرحون بكل إنجاز ولو لم يكن لهم فيه سهم أو إسهام. تعرفهم بسيماهم، بطيبتهم، بنبرة حديثهم، بسمعتهم، ببراءة ذمتهم.
– جمهورنا هم أولئك المكافحون ضد الظلم والفساد، المساندون للصلح والإصلاح، يعرفون هذا وذاك فيميزون بين غث وسمين، قد يوزعون البسمة للجميع ولكن حين يجد الجد لا تراهم إلا في صف المصلحين المكافحين الصابرين، قد يكسلون عن القيام بالواجب ولكن حين تشتد الخطوب ترفع عزائمهم عراصات الحق، وينصر صدقهم الصدق. جمهورنا هم أبناء العوائل الجزائرية الأصيلة التي لا تُلجِئها الحاجة للخنوع، ولا يدفعها الطمع للوقوع في شراك الفساد واتباع الجموع، المتهافتة عن ” الشيتة” لمصالح زائلة.
– جمهورنا هم أولئك الذين يخالفوننا بلا حقد، ويشتركون معنا في حمل أعباء الوطن حيث يكون الكد والجد، إذا قصرنا في شرح موقفنا صبروا علينا، وإذا أخطأنا صوبونا، وإذا أصبنا كانوا معنا بلا هوادة بكل شجاعة، بكرم بلا تقتير، بنبل فلا منّ ولا خيانة ولا إذاء ولا تقريع. جمهورنا هم أولئك النخب الموجودة في كل مؤسسات الدولة وشرائح المجتمع حيث مضان الخير لا تنقطع وبذور البر لا تندثر، حيث الروح الطيبة تسري فتحفظ هذا البلد وتبقي فيه الأمل.
– جمهورنا هم أولئك البسطاء من الناس الذين يأملون الخير لكل الناس، الذين يحبون الجزائر بمن فيها ومن عليها فلا يرجون شرا لأحد ولو كان على غير ما يحبون. أولئك الذين يفدون وطنهم بنواياهم الطيبة، بصبرهم الطويل، بإيجابيتهم التي لا تنالها مخططات التيئيس، بعملهم الصالح المتواصل ولو كان قليلا، يراه الله منهم وقد لا يراه المتعالون أو المثاليون أو المستعجلون.
كل خطابنا، وكل مسعانا، وكل خططنا، إلى هذا الجمهور من الناس في هذا الوطن، معهم وإليهم وبعد الله بهم. نحرص على وصالهم ولا يفتر اتصالنا بهم، هم أملنا ومصيرنا وعليهم بعد الله اتكالنا. كانوا معنا دوما، وكنا وإياهم دوما “معا نحو الهدف” على قول الرئيس المؤسس رحمه الله، لا نلتفت إلا إليهم لنسدد السير ونصوب الوجهة، فإذا نجحنا معهم سنسعد جميعا … حتى أولئك الذين لم يكونوا من جمهورنا سيسعدون معنا.
د. عبد الرزاق مقري