أرشيف التصنيف: أخبار

المسيرات من أجل فلسطين: الشبهات، أسباب المنع والتخذيل، الفوائد (6)

أولا – الرد على الشبهات

5 – الدولة الجزائرية قائمة بواجبها تجاه فلسطين:  الحقيقة ومعيار الحكم

كثير من القاعدين عن القيام بواجبهم تجاه المأساة الجارية في غزة والعدوان العظيم على الضفة والقضية الفلسطينية كلها، يواجهون كل من يدعو إلى رفع سقوف الدعم في مختلف جوانبه، بأن الدولة الجزائرية قائمة بواجبها كاملا خلافا – في ظنهم – لكل دول العالم! وفي محاججتهم المزهوين بها هذه لا يجدون أكثر من موقفين للجزائر يتحدثون بهما وهما عدم وجود التطبيع في بلادنا، وبعض التصريحات السياسية، وخاصة مواقف ممثل الجزائر في مجلس الأمن  في العضوية المؤقتة، ويضيف بعض المكتفين بالعمل الخيري أن السلطات الجزائرية متساهلة مع المساهمين في العمل الإغاثي والإنساني المتميز في بلادنا.

لا شك أن هذه المواقف مشرفة وهي في رصيدنا جميعا كجزائريين وأسأل الله أن يتقبل من كل جزائري صادق مخلص بذل جهده على هذه المسارات الثلاثة، وصمد في المحافظة عليها، غير أن ثلاثة أمور تنسف هذا الجهد وتجعله في المراتب الدنيا من مواقف وسياسات وأفعال الدعم والنصرة، وذلك ضمن معايير موضوعية نبيُّنها بعد ذكر الأمور الثلاثة.

أما الأمر الأول فهو أن الاكتفاء بعدم التورط في التطبيع وبالمواقف السياسية والدبلوماسية الجيدة وحرية العمل الخيري لصالح سكان غزة، التي هي تقاليد راسخة في الدولة والمجتمع بالجزائر ، لا يتناسب على الإطلاق مع حجم المأساة وعمق الكارثة وخطورة المصير الذي يهدد القضية الفلسطينية ومستقبل العالم العربي والإسلامي كله. فهل يكفي الزهو بهذه الأعذار الثلاثة للتنصل من مسؤولية الخذلان تجاه الإبادة الجماعية وصور الهياكل العظمية والموت بالمجاعة؟ هل نفعت تلك المواقف وذلك البذل، على أهميتها، في وقف العدوان وإدخال المساعدات ليُقال عن الدولة الجزائرية أنها أدت ما عليها ولا يُطلب منها أن تزيد أكثر من هذا، وأنه على النخب الجزائرية وكل الشعب الجزائري أن يستريحوا  وأن ينعموا بحياتهم ولا يساهموا بأي شيء فاعل آخر؟ وهل تصُدّ تلك المواقف خطر تصفية القضية الفلسطينية إذا تم كسر المقاومة وتهجير الشعب الفلسطيني، ثم السيطرة الكاملة على كل العالم العربي بعدئذ لجعله تابعا ذليلا مستدام الضعف والتخلف وربما التقسيم بلدا بلدا؟

أما الأمر الثاني هو أن الجزائر ليست وحدها في العالم التي تتميز بتلك المساهمات الثلاث، فثمة دول عربية وإسلامية أخرى غير مطبعة مع الكيان منها تونس وموريتانيا وليبيا واليمن والكويت والعراق وسوريا ولبنان، دون أن أتحدث عن دول أخرى غير هذه تطبع في السر أو لها علاقات تجارية ورياضة وثقافية دون علاقات دبلوماسية.  كما أن ثمة دول أخرى تتحدث بجرأة عظيمة ضد الكيان الصهيوني في الأمم المتحدة وداخل بلدانها وفي مؤسساتها الرسمية والشعبية، وبعض هذه الدول غير مطبع، وبعضها الآخر مطبع، وبالإمكان أن نجمع تصريحات من هؤلاء أشد بكثير من تصريحات المسؤولين الجزائريين، بل إن تصريحات بعض هؤلاء المسؤولين الجزائريين كانت مخيبة تجعلنا نحذر كثيرا في إمكانية صمود الموقف الرسمي الجزائري مستقبلا بخصوص المقاومة والقضية الفلسطينية عموما، خصوصا حينما يقول أحدهم أنه إذا قبل الفلسطينيون أي حل يعرض عليهم يمكننا أن نطبع مع الكيان، والخوف ها هنا أن يكون المقصود بالشعب الفلسطيني هو محمود عباس المنكر للمقاومة المسلحة، خلافا لما كانت عليه الثورة التحريرية، ومنظمة التحرير التي لا تمت بصلة بالرسالة  الثورية لجبهة وجيش التحرير الوطني إلى غاية التحرير الكامل وهزيمة فرنسا.

والأمر الثالث هو أن تاريخ الجزائر أعظم بكثير من هذه المواقف الثلاثة التي يزايد بها العاجزون أو المتخاذلون، فالجزائر لم تشكلها مخططات سايكس بيكو، أو تفاهمات بين الاستعمار ونخب صنعها على عينه، وهبها الاستقلال لتكون تابعة له. لقد افتك الجزائريون استقلالهم بثورة عظيمة من أعظم ثورات التحرير  ضد الاستعمار في التاريخ وقدموا في سبيل ذلك مليون ونصف من الشهداء دون الحديث عن شهداء ما قبل الثورة النوفمبرية  الذين يصل بهم عدد الشهداء إلى أكثر من سبع ملايين، كما أن الاحتلال الذي واجهوه كان  احتلالا استيطانيا إحلاليا كالاحتلال الذي يواجهه أشقاؤنا الفلسطينيون، فلا يوجد في الأرض من يفهم الحالة الفلسطينية كالجزائريين. علاوة على أن ثورتنا نالت دعما سخيا عظيما من أشقائنا العرب، بالمال والسلاح والمظاهرات في كل العواصم، وبالسياسة والدبلوماسية والفن وغير ذلك، فلا يمكن لمجرد منع التطبيع والمواقف السياسية والتساهل مع جمع المساعدات أن تقف أمام التاريخ وطبيعة الدولة التي بناها الكفاح الثوري، أو أن تكافئ حجم المساعدات التي استفادت منها الثورة من الأشقاء. فلا يمكن البتة أن تقارَن الجزائر نفسها بغيرها من البلدان في حجم النصرة والدعم الذي عليها أن تقدمه، والذي به تحفظ تاريخها، وتميزها وكرامتها ومكانتها.

أما عن معايير مستوى النصرة والدعم التي نحكم بها على أنفسنا ونقارن بها موقف الجزائر بالنسبة لغيرها فهي خمسة معايير.

  • المعيار الأول: وهو عدم وجود تطبيع مع الكيان، والجزائر موفّقة بفضل الله في التمثل بهذا المعيار، هي وعدد من الدول الأخرى على نحو ما ذكرنا أعلاه.
  • المعيار الثاني: وهو المواقف السياسية والدبلوماسية الرسمية والجزائر كذلك موفقة في هذا الجانب. والذي ساعد في إظهار الموقف المنصب الرسمي المؤقت في مجلس الأمن، ولكن ثمة من يماثلها في قوة المواقف والتصريحات والبيانات وهناك من يتجاوزها بكثير كما قلنا.
  • المعيار الثالث: المساهمة المجتمعية في النصرة والدعم، وما تتميز به الجزائر في هذا الجانب هو توفر هامش حرية جيد للدعم الإنساني الشعبي، مع أن هذا الدعم يتميز بالهشاشة المؤسسية بسبب الأوضاع القانونية الصعبة، بل المستحيلة في كثير من الأحيان،  للمجتمع المدني وقد يتعرض الهامش المتاح  إلى مضايقات مستقبلا لأسباب مزاجية أو حسابات سياسية أو أيديولوجية أو ضغط خارجي، ولا حافظ لدوامه سوى الله. وغير هذا لا يوجد شيء استثنائي منظم يذكر في المجتمع الجزائري، فالمسيرات ممنوعة رغم ما فيها من فوائد عظيمة في رفع معنويات أشقائنا في غزة وفي إظهار الموقف الصلب تجاه الاحتلال وحلفائه الأمريكيين والغربيين بما يجعلهم يفهمون بأن مصالحهم مهددة بسبب غضبة الشعوب، كما أن العمل المنظم لدعم القضية الفلسطينية في مختلف ملفاتها الأخرى يكاد يكون منعدما بسبب التكبيل التام  للمجتمع المدني والعمل المنظم بشكل عام، ولا يعتد بالأنشطة الفردية في الوسائط الاجتماعية، ولا بالبيانات وبالاجتماع داخل القاعات بالعشرات أو بضع المئات من الناس التي تقوم بها بعض الأحزاب والمنظمات والتي لا يسمع بها لا الفلسطينيون المنكوبون ولا الصهاينة ولا القوى المتحالفة معها.
  • المعيار الرابع: وهو الدعم المالي المباشر للفعل المقاوم أو الإنفاق المباشر وإقامة المؤسسات الخدمية لصالح أهل غزة، وهذا الأمر غير متوفر، فقبل الطوفان كانت الجزائر تسلم مساهمتها لعباس، ولا تزيد على ذلك. فرغم تشريف حركة حماس للجزائر بتسهيل نجاح ” إعلان الجزائر للم الشمل الفلسطيني” لم يُقدّم لها أي دعم مادي ولا أي مساعدة،  سواء قبل الطوفان أو بعده، سوى بعض الزيارات التي لم ترق إلى الاحتفاء الرسمي في أعلى مستوى  التي نالتها حركة فتح التي خرّب قادتها المبادرة الجزائرية ( باعتراف مسؤولين جزائريين)، وكأن الذي كان مقصودا من المبادرة هو الاعتراف بالشرعية الدولية الذي طُلب منها فحسب. كما لا نكاد نجد، على الصعيد الإنساني، مؤسسة قائمة في أي مجال من المجالات شيدتها الدولة الجزائرية في غزة، خلافا لمؤسسات كثيرة ( مستشفيات، مدارس، سكنات…) ظهرت باسم دولها، ولا يُعتد ببعض المنشآت البسيطة التي أقامها محسنون جزائريون عن طريق جمعيات خيرية بميزانيات محدودة إذا قورنت بمنشآت الدول. وبعد الطوفان لم تستفد غزة المقاوِمة وغزة المنكوبة من الجزائر الرسمية، وكان السبب أن الجزائر ملتزمة بالدعم عن طريق  منظمة التحرير فقط وأن المساعدات الإغاثية الرسمية المباشرة ممنوعة من الدخول بسبب غلق معبر رفح، مع العلم بأنه لو كانت ثمة إرادة يحركها حجم المأساة وخطورة التحديات لوجد المسؤولون ألف طريقة للوصول، على شاكلة  الطرق التي كانت تُستعمل أثناء ثورة التحرير الجزائرية.  
  • المعيار الخامس: وهو ما يتعلق بالدعم العسكري بالسلاح والتكنولوجيا والخبرات لصالح المقاومة، وهذا المجال كما هو معلوم لم تقدمه سوى ايران في وقت سابق وقد انتهى الآن ولم يخلفه الذين كانوا يلومون المقاومة عن علاقتها بإيران.

حسب هذه المعايير تجد الجزائر نفسها في المستويين الأولين وشيء من المستوى الثالث، ومن حق أي جزائري أن يفتخر بهذا المستوى، خصوصا عدم التطبيع مع الكيان الذي يعبر عن توجه عام أصيل للجزائريين  في الدولة والمجتمع، مع ما يكتنف هذا الموقف من مخاطر تمثلها أقليات كامنة في الداخل وضغوطات أمريكية مستقبلا، حسب ما يقع من تطورات في غزة. ولكن ليس من حق أي جزائري، داخل السلطة أو في المجتمع، أن يحتج على أي جزائري آخر يطلب رفع مستوى المناصرة وفق كل المعايير المذكورة أعلاه وحسب ما يتطابق مع قيمة الجزائر الثورية.

المسيرات من أجل فلسطين: الشبهات، أسباب المنع والتخذيل، الفوائد (5)

أولا – الرد على الشبهات

4 – شبهة “السلاح أو لا شيء”:

لا شك أن القتال في سبيل الله هو ذروة الجهاد ، وبغيره لا يكون التحرير ، ولكن ليس هو وحده المطلوب، وحين يوجب ولا يكون متاحا لا يُعفى المؤمنون من العمل في غيره لذات المقصد، أو مما يدخل في الإعداد له. قبل أن تندلع الثورة الجزائرية في نوفمبر 1954 كان ثمة نضال وطني وعمل إصلاحي علني لإعداد الإنسان لأكثر من ثلاثة عقود (الإنسان الذي كان قد طحن الاستعمار إرادته بعد فشل المقاومة الشعبية)، ثم إعداد سري للثورة من 1947 إلى 1954. وحين اندلعت الثورة النوفمبرية لم تقتصر على القتال بالسلاح، بل اعتمدت على جمع المال والاشتراكات، والمسيرات والمظاهرات، والعمل السياسي والدبلوماسي، والعمل الفني والغناء والمسرح، والرياضة، وغير ذلك. وذلك شأن كل الثورات ضد الاحتلال في تاريخ البشرية. إنه من حالات التخاذل الخطيرة التي بيّنها مالك بن نبي في مسيرة النهضة وبعث الحضارة الزيادة على الشيء من أجل تمييعه وإنهاء أثره. كالذي يدعوك إلى ما ليس بيدك لكي يصرفك عمّا تقدر عليه، أو كالذي يدعوك بالبدء بالنتيجة لكي يصرفك عمّا يُحقق النتيجة. ومن هؤلاء، أولئك الذين كلما دعوتهم لعمل شيء ما لصالح القضية الفلسطينية، كالمساعدات وجمع المال، أو المقاطعة، أو العمل السياسي والدبلوماسي والإعلامي، أو المسيرات والوقفات، يقول لك أن كل هذا مضيعة للوقت ولا حل مع الصهاينة إلا السلاح.

وفي العادة هؤلاء ضد القضية أصلا فيكون هدفهم التثبيط وتعظيم الحمل لكي تموت القضية، أو أنهم لا يعملون شيئا للقضية فيحاولون تسكين أوجاع ضمائرهم وإعاقة أي عمل بالزيادة غير الممكنة فيه للتغطية على قعودهم وعجزهم.ولو سألت هؤلاء كيف نوصل ما تقصدونه إلى غزة، في ظل الغلق الكامل من الصهاينة والدول العربية يعجزون عن الجواب، وإذا سئلوا هل لكم اقتراحات في ذلك لا يجيبون.وثمة من هؤلاء من إذ جد الجد في ما يَدعون إليه غيرَهم تخلّفوا، ويحق فيهم ما قاله الله تعالى في بني إسرائيل: ﴿ أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ مِن بَعْدِ مُوسَىٰ إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَّهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُّقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ۖ قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِن كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلَّا تُقَاتِلُوا ۖ قَالُوا وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِن دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا ۖ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْا إِلَّا قَلِيلًا مِّنْهُمْ ۗ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ﴾ [ البقرة: 246] وأتذكر حادثة طريفة قصّها لنا الإخوة من مدينة بجنوب البلاد وقعت في بداية الثمانينات مع أحد مؤسسي وقادة الحركة رحمه الله، من الجنوب ، بالغ أحد الشباب في لومه على عدم إرساله إلى الجهاد في أفغانستان فحاك له سيناريو وهميا لكي يتوقف عن المزايدة إذ أرسل إليه ليلا أحدا يقول له بأن الشيخ محفوظ وصله حرصُك على الجهاد وهو يريدك أن تصعد فورا الى العاصمة ليرسلوك إلى أفغانستان فاضطرب الرجل وأسقط في يده وقدم ألف عذر ثم لم يعد يزايد على أحد. وإني لأظن، من خلال معرفتي ببعض من يثبطون على العمل لفلسطين بدعوى “القتال أو لا شيء” أنهم مثل صاحبنا لو ابتلوا.

والله نسأله لنا ولهم العافية.

المسيرات من أجل فلسطين: الشبهات، أسباب المنع والتخذيل، الفوائد (4)

أولا – الرد على الشبهات

3 – شبهة المزايدات:

هناك من لا يكتفي أن يكون متخاذلا بخصوص الإبادة التي يتعرض لها أهلنا في غزة، ومخططات تصفية القضية الفلسطينية كلها، بل يعمل على تخذيل الآخرين، فهو بمثابة تلك المرأة التي دخلت النار في قطة حبستها فلا هي أطعمتها ولا تركتها تأكل من خشاش الأرض كما جاء في حديث المصطفى صلى الله عليه وسلم. ومن أساليب هؤلاء أنهم يتهمون النشطاء في القضية الفلسطينية بسقوف عالية، بما يتناسب مع حجم المأساة بقدر استطاعتهم، بأنهم يزايدون على غيرهم بما يقومون به، بعضهم يتهمونهم بأن مزايداتهم سياسية حزبية، بعضهم يتهمونهم بالرياء والنوايا السيئة، وبعضهم يتهمونهم بأنهم يقصدون الإساءة لمن لا يقتنع بآرائهم ومن لا يعمل بعملهم. وهذه الاتهامات قديمة استعملها دوما الذين يعادون ثوابت الأمة باتهام المدافعين عنها بأنهم يحتكرون الإسلام ويستعملون الدين واللغة العربية للمزايدة السياسية والحزبية، ولإظهار أنفسهم بأنهم أفضل من الآخرين ولتغليط عوام الناس. وكان جوابنا المُسكت لضلالهم: “اعملوا انتم كذلك لصالح الثوابت حتى لا نحتكرها”. إن مقاصد هؤلاء المُخذّلين شتى، منهم من يعادي الثوابت ويحاربها ويريد أن لا يعمل أحد لها، ومنهم من لا يعاديها ولكن لا يلتزم بها وبالدفاع عنها، انحرافا أو عجزا أو خوفا ممن يعاديها، فينظر إلى من يعمل لها بأنه يكشفه حتى وإن كان هذا المجتهد لا يقصده البتة. وكذلك الشأن في القضية الفلسطينية، هناك من يحارب القضية الفلسطينية ومن يعادي المقاومة ومن يقودها فيحارب تبعا لذلك من يعمل لها بأساليب شتى منها الاتهام بالمزايدة، وهناك من يقصر في العمل للقضية الفلسطينية فيشكك في من يعمل لها، فإن تخلف في بذل المال لصالح القضية يشكك في من يجمع لها، وإن كان مقصرا في المقاطعة يشكك في جدواها، وإن كان مقصرا في المسيرات والوقفات أمام السفارات يشكك في أهميتها ويتهم من يقوم بها بالمزايدة. وهناك من يرغب في مناصرة القضية ولكن في الحدود السهلة المتاحة للجميع التي لا تحّمله التضحية بأي شيء، أو في إطار ما تقبل به السلطات الرسمية فقط، فإن أصرّ غيرهم على القيام بما لا يقومون به شككوا كذلك في عملهم واتهموهم بالمزايدة حتى وإن علموا في قرارة أنفسهم بأن تلك الأعمال نافعة جدا لفلسطين. لا يهمنا هنا الذين يبغضون القضية الفلسطينية والمقاومة وقادتها، من المدخليين الموالين لأنظمة الظلم والخيانة والعلمانيين المتطرفين الموالين للغرب، فهؤلاء الصراع معهم مبدئي، والصراع معهم يندرج ضمن صراع أهل الحق ضد باطلهم. ولكن الذي نوجّه لهم اللوم وندعوهم للتوبة والإنابة هم أؤلئك الذين يعلنون التزامهم بالعمل للقضية الفلسطينية ولكن يخذلّون العاملين ضمن السقوف التي لا يقدرون عليها، كالمسيرات والوقفات امام سفارات الأعداء والعملاء، فيتهمونهم بالمزايدة لا لشيء إلا للتغطية على عجزهم وكسلهم وأهوائهم وخوفهم وتقصيرهم، وتزداد حساسيتهم ويكثفون اتهام المجتهدين بالمزايدة حين يدعوهم هؤلاء إلى رفع سقف النضال من أجل القضية وركوب المخاطر من أجلها، كما يفعل أي داعية إلى الخير ضمن ما يراه خيرا، وكان يكفي أن يقول العاجزون عن المسيرات والوقفات أمام السفارات “لا نستطيع ولا يكلف الله نفسا إلا وسعها”، فالذي يحاسبهم حقا ليس الذي يدعوهم إلى الخير ولكن الله وحده هو الحسيب الرقيب الذي يعرف دون غيره مقدار الوسع وحدود الاستطاعة. كان يكفي هؤلاء أن يدعوا لمن يعمل بالمستويات العليا للاستطاعة في القضية، لعل الله يعذرهم، أو يفرحوا فقط بأعمال العاملين حتى يأخذوا معهم الأجر، ولا يتهموا الناس في النوايا التي لا يعلمها إلا الله العليم السميع البصير، كان عليهم أن يسكتوا فقط، حتى لا يأثموا!

المسيرات من أجل فلسطين : الشبهات، أسباب المنع والتخذيل، الفوائد (3)

أولا – رد الشبهات

2 – شبهة الخوف من الانفلات الأمني:

هذه شبهة مردودة على أصحابها، فقد بقينا في الشارع لمدة عامين في الجزائر العاصمة وفي أغلب الولايات أثناء الحراك الشعبي ولم يحدث أي انفلات أمني، بل حتى حين خرج الحراك عن أهدافه الشعبية وتحول إلى ميدان صراع بين أجنحة داخل السلطة بقي هادئا، وقمنا بمسيرات عديدة غير مرخصة، ضد غزو العراق ولمناصرة القضية الفلسطينية وضد التزوير وضد استغلال الغاز الصخري، ولمقاطعة الانتخابات الرئاسية عام 20014، ومن أجل الانتقال الديمقراطي عدة مرات، وشارك في مختلف هذه المسيرات زعماء سياسيون كبار من مختلف التيارات والأحزاب، ومنهم الشيخ محفوظ نحناح رحمه الله في بعض منها، وفي إحداها ضربنا بالعصي على مقربة منه، وحتى حينما كانت تكون المواجهة بين النشطاء والأجهزة الأمنية قوية ( كما في الصورة المرفقة التي يظهر فيها المتحدث والشيخ ابو جرة وعدد من قادة الحركة) لم يحدث في أي مرة انفلات بل تم التعامل من قبل جميع الأطراف بالمسؤولية وضبط النفس. كما أننا شاركنا كنواب في البرلمان في العهد السابقة بوقفات احتجاجية غير مرخصة أمام السفارة الأمريكية وأوصلنا رسالتنا لهم وكان لها تأثير جيد، سواء على مستوى التوعية الشعبية أو الرسالة التي وصلت للمعنيين، أو الأجر والرمزية وراحت الضمير التي كسبها النشطاء.

وفي كل هذه الفترات كانت الأوضاع الأمنية سيئة جدا، وكان الإرهاب لا يزال كائنا، وصراعات الأجنحة داخل السلطة على أشدها، والتحرشات الأجنبية أخطر من الوقت الحالي، في عهد زروال وفي عهد بوتفليقة. فكيف يعقل أن تكون المسيرات البارحة، عند أغلب النخب، مطلوبة وعمل مشرف لأصحابه، ولا تتعامل معها السلطات بحساسية مفرطة، وتصبح اليوم تحمل كل المخاطر وتتعامل معها السلطات كمعادلة صفرية يجرّم من يدعو لها ويشارك فيها، وتشكل له ملفات أمنية ويلاحق بعدها، وتبالغ بعض النخب المتزلفة للسلطة في إنكارها والتهوين منها أو التخويف بها.والعجب كل العجب أن كل الأسباب التي خرجنا من أجلها للشارع نبين للعالم مواقفنا تجاهها لا تساوي في شيء الأوضاع المهولة التاريخية التي تحدث لأهلنا في غزة، وإنما الذي تغير أمران: تغوّل الاستبداد في العالم العربي وطأطأة أغلب النخب لرؤوسهم أمامه، خوفا أو طمعا، ولكن هيهات أن يستمر الحال على ما هو عليه، فسيتشكل تيار شعبي يكسر السقوف المفروضة وتظهر أجيال قيادية جديدة ترفع رأسها للمعالي، وستَبِين أساليب متعددة لقهر الاستبداد وكسر غروره، وما رأيناه من بطولات رجال أحرار وشباب أبطال في سفن كسر الحصار وقافلة الصمود، وما نراه من عبقرية الشباب في غلق السفارات المصرية في العديد من دول العالم، وما نلحظه من إصرار أجيال جديدة في فرض إرادتها في الساحات إلا شاهد على ذلك. ولن يكون غدا كاليوم وأمس أبدا. مقولة: “حين تكبر الأمور يكبر لها رجال ويصغر بها آخرون”.

المسيرات من أجل فلسطين: الشبهات، أسباب المنع والتخذيل، وعظمة النفع (2)

أولا – الرد على الشبهات:

1 – شبهة طلب الرخصة: هناك بعض الدول العربية تمنع مبدئيا أي عمل شعبي لصالح فلسطين، بل هناك من يمنع لبس الكوفية في الأماكن العمومية بشكل منهجي في بعض الدول، ووقع عندنا في الجزائر في بعض الأماكن العمومية، بل أصبح إدخال الأعلام الفلسطينية للملاعب ممنوعا، بل هناك في دول مشرقية من يمنع الدعاء لغزة، ومنع المسيرات يندرج ضمن هذه الحساسية الكبيرة تجاه تطورات الطوفان، أما عن طلب الرخصة، فقد قدمت بعض الأطراف طلبا للمسيرة الشعبية عهدنا ورُفض الطلب، ولا أريد ذكر هذه الأطراف لعدم الإحراج، وأنا شخصيا حين ألقي علي القبض بعد خروجي للشارع على اثر أول مجزرة مروعة في المستشفى المعمداني، لم يقدم إلي اللوم على عدم طلب الرخصة، بل ذكرت لي أسباب أمنية (سأتحدث عنها لاحقا) لرفض المسير في الشارع.

ولو رجعنا إلى الدستور فإن المادة 52 تؤكد “أن حرية التعبير مضمونة، وأن حرية الاجتماع وحرية التظاهر السلمي مضمونتان، وتمارسان بمجرد التصريح بهما”. ولا شك أن سبب تأخر صياغة القانون الذي يحدد شروط وكيفيات ممارسة هذا الحق وفق نفس المادة الدستورية أن الصيغة اللغوية للمادة لا تسمح لهم بمنع المسيرات بمجرد التصريح إلا بقانون يناقض الدستور. مع أنه لا حرج لديهم أن يدوسوا على الدستور حسب ما كان يقوله الشيخ محفوظ نحناح رحمه الله: “يكتبون الدساتير بأيديهم ويدوسون عليها بأرجلهم” فلو راعى المسؤول الدستور، في نصه وروحه، لأمكننا تنظيم المسيرات دون أي عناء ودون أن تحدث أي مشكلة.

وفي كل الأحوال فإن نضالنا هذا من أجل تجسيد هذه المادة الدستورية نضال دستوري، سواء من أجل فلسطين أو من أجل مطالب سياسية واقتصادية واجتماعية، ولا بد للنضال أن يحقق نتائج، ومن ذلك أن المسيرة الأخيرة التي أقيمت في الجزائر العاصمة والعديد من الولايات في 2023 بعد الطوفان تضامنا مع غزة التي سمحت بها ونظمتها السلطات عن طريق أحزابها كانت نتيجة الضغط الشديد الذي قام به النشطاء من قبل بخروجهم للشوارع دون رخصة، وبكل تأكيد سيؤدي الضغط الجديد أمام مآسي التجويع التي يعيشها أهلنا إلى تحرك السلطات، عن طريق بعض أدواتها الحزبية والمجتمعية، لتنظيم مسيرة. وإن تحقق ذلك فهو خير، لصالح أهلنا الغزيين ولشرف الجزائريين، حتى وإن نسب هؤلاء المسخّرين الفضل لأنفسهم، فإن الله المصدر يعرفه الله تعالى ثم الشعب الجزائري، المهم أن يستمر النضال السلمي بالاعتماد على المادة 52 من الدستور.

يتبع…

المَسِيرات من أجل فلسطين: الشبهات، أسباب المنع والتخذيل، وعظمة النفع (1)

تابعت العديد من التعليقات في الوسائط الاجتماعية عن المسيرات من أجل فلسطين فأحصيت عددا من الأفكار المضللة والشبهات المخادعة بشأنها، متشابهة في العديد من الدول العربية، مصدرها الذباب الإلكتروني للأنظمة العربية المستبدة والخلايا الإلكترونية الصهيونية الذكية، التي تبني مفاتيح خطاب لكل شكل من أشكال الدعم بأساليب معقدة ومتناقضة، ويعينهم في نشرها ويضيف عليها المتخاذلون والمخذّلون والسذج من المسلمين، من حيث دروا أم لم يدروا ، ومن ذلك قولهم: “المسيرات عمل غير قانوني ويجب طلب الرخصة، لا فائدة من المسيرات في دعم القضية الفلسطينية، الصراخ في الشوارع لا يحرر فلسطين، المسيرات تؤدي إلى الانفلات الأمني، المسيرات مزايدات سياسية من تجار القضية الفلسطينية، السلاح وحده هو الحل، جمع المال والإغاثة فقط المطلوب، لكل بلد ظروفه وأولوياته في دعم القضية، موقف الدولة جيد، بلدنا موقفه جيد من القضية فلماذا المسيرات، نترك التعبير في المسيرات لنحافظ على المتاح …” إن كل هذه الشبهات أفكار مضللة نرد عليها واحدة واحدة في المحور الأول، ثم نتطرق في المحور الثاني إلى الأسباب الحقيقية التي تجعل السلطات الرسمية تمنع المسيرات والخلفيات التي تدفع بالمتخاذلين والمخذّلين والسذج لضرب عزائم الأبطال الذين يواجهون المخاطر في الخروج للشوارع تعبيرا عن غضبهم مما يحدث من قهر وتجويع وإبادة لأشقائنا في غزة، وفي المحور الثالث نبين الفوائد الإستراتيجية العظيمة للمسيرات في الشوارع والوقفات أمام السفارات.

أولا – الرد على الشبهات:
يتبع ..