منذ أن اندلعت الثورات العربية والسؤال يتكرر ألف مرة لدى الكثيرين، هل ستصيب هذه التحولاتُ الجذريةُ الجزائرَ أم لا؟ ولبحث هذا الموضوع لا بد من التوقف عند الأسباب العامة التي ساهمت في قلب الأوضاع في هذه المنطقة من العالم التي يئس بشأنها كثير من المهتمين بأمور السياسة والحكم في السنوات الأخيرة من إمكانية إصلاحها وتغيير الأوضاع فيها. ثم يجدر بنا أن نبحث لهذا الغرض عن أوجه التشابه والتقارب مع الشأن الجزائري ثم عن خصوصيات هذا البلد ثم عن ديناميكية العناصر المشكلة للوضع لمحاولة فهم طبيعة التطور في المدى المنظور.
يعلم الجميع بأن الشرارة الأولى لكل هذا الحراك انطلقت من تونس ثم امتد الفتيل المشتعل إلى مصر فوجد فيها برميلا عظيما من البارود يتهيّأ للانفجار. وحينما نجحت ثورة 25 يناير في إسقاط مبارك زُلزلت عروش الأنظمة العربية كلها وتشققت سقوفها فصارت في حالة من الهلع والإرباك عجلت بانتقال ارتدادات الزلزال من بلد إلى آخر. ولو تتبعنا تفاصيل الأسباب المباشرة لهذه الأحداث لقدرنا على تنقيح المناط، كما يقول الأصوليون، وتخليصه من شبهة المؤامرة الداخلية أو الخارجية، إذ لا يتصور أن أحدا أمر البوعزيزي مثلا أن يحرق نفسه أو أن قوى خفية أوحت للقذافي أو صالح أو لمحافظ درعا وزبانية سيدي جابر بالإسكندرية أن يهينوا كرامة مواطنيهم ويسفكوا دماءهم حتى يثور الناس عليهم. كما أن لا أحد يستوعب أن هذه الجرائم التي اقترفها الحكام وأعوانهم هي وحدها المفسرة للشجاعة والنجدة الشعبية الحديثة في مواجهة ظلم سُلطانيٍّ قديم.
إن الأسباب الحقيقية لصراخ الشعوب قائمة منذ القدم وهي متشابهة من طنجة إلى عدن، غير أن الذي أطلق المارد من عقاله هو علم الناس بأن صُداحهم صار يبلغ الآفاق، وأن قتل المعارضين لم يعد ممكنا إخفاؤه وبقاؤه بلا عقاب. فالذي يجب العناية به إذن هو استحضار الأسباب الداخلية العميقة التي دفعت للثورة والتي يمكن حصرها في ثلاثة أسباب متواجدة في كل بلد عربي بدرجات متفاوتة، وهي الفشل في تحقيق التنمية والتوزيع العادل للثروة، وانتشار الفساد في كل مفاصل الحكم، وغلق مجال الحريات واستحالة تغيير الأوضاع بواسطة الصندوق
إن هذه الأدواء كلها موجودة في الجزائر، منها ما هو أكثر ومنها ما هو أقل. فالفشل في تحقيق التنمية ثابت لا ينكره أحد. فرغم إنفاق أموال طائلة على التنمية، تصلح لنهضة قارة بكاملها وليس وطن واحد، بقيت الجزائر بلدا عاطلا عن الإنتاج لا يعيش إلا على الريوع، مأكلُ أهلِه ودواؤُهم ومسكنُهم وطرقُهم وغيرُها إنما هي ممّا وهبه الله له من المحروقات، لم تأت به عبقرية هذا الحاكم أو ذاك، ولو توقفت هذه النعمة أو تعثرت لوُجدت صعوبةٌ جمة في دفع أجور العمال بله أن ترفع أجورهم. وأما عن الفساد فلو اعتبرنا ما تنشره وسائل الإعلام الوطنية فقط لأدهشتنا حال هذا الوطن كيف صار عرضة لكل من له سلطة وجاه، فإذا سمعنا وصدّقنا القصص التي يحكيها سرا من عايشوا الفساد وعرفوا أباطرته، فإن اليأس يأكل أحشاءنا ويقضي على آمالنا لولا الثقة بالله وحفظه لهذا الوطن، ويكفينا خجلا وخوفا من خطورة الفساد على استقرار البلاد المرتبة التي عليها الجزائر في تقرير منظمة الشفافية الدولية، حيث وضعتنا قريبا من الصومال وميانمار! وأما عن الديموقراطية وهوامش الحرية التي يتغنّى بها من يحسن الظن بالحكام فإنها ديموقراطية بلا أفق وهوامش عقيمة لا تلد، حيث إن المقصود بالديموقراطية هي فرصة التداول على الحكم بين مختلف القوى والألوان السياسية، وليس تدويره من داخل الخزانة الواحدة، أو »تلقيمه« قصد إدامته وتزيينه، كما أن الديموقراطية هي إمكانية محاسبة الحاكم واستبداله بالإرادة الشعبية إذا فسد أو عجز، وهذا أمر غير متاح في هذا البلد الذي لم يتغير فيه نظام الحكم منذ خمسين سنة رغم الإخفاقات والفضائح المتتالية، فلو كنا في بلد فيه حرية وديموقراطية حقا لتغيرت المعطيات الانتخابية والموازين السياسية ولو لمرة واحدة بعد هذا الزمن الطويل من الحكم، أو بعد الفضائح الكبيرة والعديدة التي عرفها الوطن والتي يكفي لفضيحة “الخليفة” وحدها مثلا أن تزلزل أكثر العروش عتوّا وصلابة
لا يوجد إذن ما يجعل الجزائر متميزة عن غيرها من الدول العربية الأخرى في حديثنا عن أسباب هبوب رياح التغيير. غير أن ثمة مكابح خاصة تمنع من انطلاق هبّات التبديل في هذا البلد، مكابح يعرفها نظام الحكم ويستغلها أحسن استغلال في إدامة أمره وتأجيل حتفه، وأول هذه الخصوصيات هي حالة التخدير الذهني التي أصابت عقول الجزائريين الذين عاشوا فتنة التسعينيات ورأى كثير منهم جريان الدماء وتبعثر الأشلاء في الطرقات، فهم لا يريدون العودة إلى هذا المآل مهما حملت لهم قصص الجيران من آمال، قد أصابهم الخوف والهلع من أية دعوة جادة مهما كانت نبيلة وسلمية لمعارضة الحكام. ثم ثمة خصوصية ثانية وهي قدرة نظام الحكم على شراء السلم ومواجهة الاضطرابات الاجتماعية في مختلف المؤسسات والولايات بواسطة الثروة المالية الكبيرة التي في خزنته، وأما خصوصيته الثالثة فهي البيئة السياسية التي صنعها باقتدار، حيث لم يترك في هذا البلد جهة معينة تقول أنا هو النظام وأنا هو المسؤول عن هذا الوطن تتجه إليه الأصابع وربما الحشود إذا أرادت التغيير. ومع هذا أغلق اللعبة كلها بالتحكم الكامل في الوسائط المجتمعية من أحزاب ونقابات وجمعيات ووسائل إعلام، ثم منح للجميع هامشا من الحرية يقول فيه من أراد أن يقول ما يقول ولكنه يفعل هو ما يريد.
يخطئ من يعتقد بأن هذه الكوابح سيطول فعلها أمدا طويلا، فالثروة المالية البترولية التي هي أهم هذه الكوابح معرضة للتوقف عن العمل ليس بسبب أنها ثروة غير متجددة في المدى المتوسط كما هو معلوم لدى الجميع، ولكن لأنها مع ذلك ذات قيمة نسبية مهددة في أي لحظة من اللحظات بسبب خطورة الأزمات الاقتصادية العالمية وما يتعلق بتراجع الدولار وأثره على المداخيل الجزائرية ونسب التضخم العالمية وارتفاع أسعار المواد الاستهلاكية في الأسواق الخارجية وتزايد فاتورة الاستيراد المطردة علاوة على ما لا نعلمه عن المخاطر التي تهدد السندات الجزائرية المودعة بلا شفافية في البنوك الأمريكية وأثر النهب والفساد والتبذير على الاقتصاد الوطني والفشل في مجال الاستثمار وبناء المؤسسات الاقتصادية المنتجة التي وحدها توفر مناصب شغل حقيقية ودائمة وتساعد على التوزيع العادل للثروة. أما عن كابح التخدير الذهني فإن الزمن سيتلفه بكل تأكيد لأن الشباب القادم لم يعش أحداث المأساة الوطنية ولا يعرفها، ولن يفهمنا أبدا حينما ندعوه للصبر على الفساد والفشل خوفا مما عشناه نحن ولم يعشه هو. وأما عن هوامش الحرية والديموقراطية وتحكم النظام الحاكم في المجتمع المدني والطبقة السياسية فإن الأمر لن يدوم لأن جيلا جديدا من السياسيين والناشطين الاجتماعيين والمفكرين والمثقفين سيظهر متأثرا بما سيراه من تطور سياسي واجتماعي وفكري حقيقي سيقع لا محالة في بلاد عربية أخرى في السنوات القليلة المقبلة، ولن يُصبح ممكنا إقناع هذا الجيل عندئذ بما يُحكى لنا من أن الجزائر أفضل من البلاد العربية الأخرى في الحرية والديموقراطية.