سوريا: تحليل الواقع واقتراح الحل

حينما قام أطفال صغار بكتابة عبارات عبثية ضد النظام في درعا قام هذا الأخير بسجنهم وتعذيبهم، وحينما حاول أعيان درعا التوسط لإطلاق سراح هؤلاء الفتية أهانهم المحافظ وأزلامه، فأدى ذلك إلى احتجاجات سلمية تطورت إلى مطالبات بالإصلاح السياسي عبر مسيرات امتدت إلى العديد من المحافظات. بدل الاستماع إلى مطالب السكان قام النظام باضطهاد المتظاهرين بوحشية كبيرة من قتل واعتقالات وانتهاك للحرمات والأعراض. تسببت وحشية بشار وعائلته وأعوانه في اندلاع مقاومة مسلحة من أجل الدفاع عن النفس تبعتها انشقاقات في الجيش السوري فتوسعت المواجهة وتطورت إلى حرب حقيقية. كان من الممكن أن تحل المشكلة بسرعة لو رجع النظام السوري لرشده واستمع لنداءات الشخصيات والقوى التي كانت تحترمه في معسكر المقاومة والممانعة، ولكنه لم يفعل لأن الممانعة كانت بالنسبة له وسيلة للتموقع في الخارطة الإقليمية فحسب، إلى جنب حليفته إيران ضمن مشروع سياسي يتجاوز قدسية القضية الفلسطينية. حينما توسعت المواجهات كان من الممكن أن تحسم بسرعة لصالح الثوار بسبب الأرضية الديموغرافية الواسعة التي يتحركون فيها ولكن تدخل القوى الإقليمية والدولية على الخط عقد الأمور. منعت القوى الغربية الثوار من التسلح وتكفل الأمريكان أنفسهم برسم سد منيع على الحدود التركية لمنع تسرب السلاح سوى الكميات والأنواع التي تحافظ على وجود الثورة ولكن لا تمكنها من حسم الصراع لصالحها، وفي ذات الوقت أُطلقت أيادي التدخل الأجنبي الروسي والإيراني من حيث التسليح والخبراء ، والعراقي واللبناني ( حزب الله) وكذلك الإيراني من حيث المشاركة المباشرة في القتال، مع الرقابة الدولية والضغط المستمر على هؤلاء بما يمنعهم من إنهاء المواجهات لصالحهم كذلك. انطلقت مؤامرة تدمير سوريا وتفكيك جيشها لصالح إسرائيل بإمعان وإحكام بواسطة استراتيجية إطالة الأزمة وتعقيد الأوضاع على الأرض إلى أن يأتي أوان الحسم لوضع اليد الغربية على سوريا. كان لا بد أولا من تصفية ملف آخر لا يقل أهمية وهو الملف المصري فتم التآمر على الشرعية وتوريط الجيش المصري في سفك الدماء ومواجهة قطاعات واسعة من الشعب وكسر مصداقيته مصريا وعربيا ودوليا، ثم كانت حادثة الفصل المتمثلة في القصف الكيمياوي للمدنيين في مشهد مروع للجريمة يظهر فيه اختناق الأطفال والنساء ومفارقتهم الحياة بمشقة لا توصف وسط لوعة أهلهم وأقربائهم وعجز الأطباء على إنقاذهم. مع ما تحمله هذه الجريمة من بعد متوحش تجاوز كل الحدود الآدمية والبهيمية معا، تنبعث منها صور متناقضة توحي تارة بالغباء والتجبر واللامبالاة إذ كيف يعقل أن يتورط الجيش النظامي في هذه الجريمة بحضور المبعوثين الأمميين المكلفين بالتحقيق في استعمال السلاح الكيمياوي، وتوحي تارة أخرى بأن هذا الجيش المجرم وقع في تغليط استخباراتي أوهمه بأن صيدا ثمينا يتوفر في المواقع التي ضربت لو تم الظفر به وإبادته سيساعد على حسم القضية سريعا، أو أن الجيش النظامي السوري مخترق كلفت جهة فيه بشحن الصواريخ كيميائيا لتبرير التدخل العسكري الغربي. وفي كل الأحوال هذه الجريمة الفظيعة هي نكبة تاريخية في حق السوريين قُتل فيها خلق كثير بأقبح ألوان القتل، ثم هي التعلة التي ستوضع بها سوريا تحت الوصاية الغربية، والغريب في الأمر هو تردد الموقف الروسي وإعلانه عدم الدخول في أي حرب يمكن أن تقع مما فاجأ النظام السوري وجعله، على لسان وزير خارجيته، يستجدي روسيا دون نتيجة لكي تستمرفي رعايته وهو يتهاوى دوليا، مما يجعلنا نتساءل عن طبيعة الموقف الروسي ودوره في تعفين الأوضاع في سوريا وإطالة أمد الأزمة ولصالح من كان يشتغل، لصالح الشعب السوري أم لصالح أعدائه وعلى رأسهم الكيان الإسرائيلي؟
ومهما يكن من أمر فإن طبول الحرب على سوريا تقرع من
قبل نفس المعسكر الذي ضرب العراق ومزقه مع فارق مهم وهو أن تركيا، من جهة، التي تحدت أمريكا والحلف الأطلسي برفضها تقديم يد المساعدة للعدوان على بلاد الرافدين هي اليوم حاضرة وعليها مسؤولية كبيرة وفق النتائج التي ستترتب على هذه الحملة العسكرية. ومن جهة أخرى سوريا التي شاركت في ضرب العراق بإيعاز من إيران التي تحالفت مع أمريكا في ذلك العدوان لوضع يدها على مستقبل العراق كما هو الحال الآن، فالنظام السوري يذوق اليوم من نفس الكأس المسموم الذي أذاقه للعراقيين في خطة قديمة أخرى قضت بتدمير جيش كبير آخر من الجيوش العربية لصالح أعداء الأمة وعلى رأسهم الكيان الصهيوني.
إن الحملة العسكرية التي تحضر لضرب سوريا ليست لصالح الشعب السوري، فهي إما أن لا تكون حاسمة إذ ستكتفي بضربات جوية وصاروخية للقدرات العسكرية السورية التي هي ملك للشعب السوري في آخر المطاف ويتم بعد ذلك تعفين الوضع أكثر وملاحقة كل الجبهات القتالية الثورية المعادية للكيان الإسرائيلي والتمكين المتدرج لقوى عسكرية علمانية تمسك بلدا ضعيفا ضمن استراتيجية غربية عربية تابعة للسياسة الخارجية الأمريكية كما هو حال النظام السعودي القائم والنظام المصري الذي يراد فرضة عن طريق السيسي وأعوانه. وإما أن تكون حرب تدميرية شاملة تؤدي إلى مواجهات إقليمية على أرض عربية تدفع فيها البلدان والشعوب العربية الثمن غاليا لتنتهي المواجهات بتفوق وهيمنة إسرائيلية تامة على المنطقة، وقد ينقلب هذا السحر على الساحر بأن يصنع الانفلات الأمني العام وضعايسمحبضرب الكيان الصهيوني من كل ناحية من قبل أي مقاوم على أرض عربية لا يقودها أحد في هذه الحالة، وهو احتمال تحسب له القوى الغربية الحساب ولا شك.
قد يقول قائل إذا كان الموقف هو معارضة ضرب النظام السوري من قبل الدول الغربية، هل يُترك الشعب السوري لهذا النظام المجرم المتوحش يبيده كيف ما يشاء؟ والجواب على هذه الحيرة المشروعة في كتاب الله تعالى وفق قوله سبحانه في سورة الحجرات : ((وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ )) سورة الحجرات: 9
لا بد أن تتدخل دول أخرى لحل المشكل وإيقاف التقاتل، وهذه الدول يجب أن تكون دولا إسلامية في إطار منظمة التعاون الإسلامي. تقترح هذه الدول على الطرفين حلا سياسيا يعبر عن إرادة غالبية الشعب السوري مع الحفظ الكامل لكل حقوق الطوائف الموجودة في سوريا فإن بغت طائفة على غيرها تتدخل الدول الإسلامية ضدها بالقوة وتفرض الحل بالعدل والقسطاس. ومن المتوقع أن الطرف الذي لا يتجاوب مع مشروع الصلح هذا هو النظام السوري لأنه يريد أن يفرض طائفته على كل الطوائف الأخرى فهو الذي سيتوجه إليه الحل العسكري بلا شك.
غير أن هذا الحل خيالي طوباوي لا يمكن أن يتحقق، وإنما ذكرته ليتضح بأن المشكلة ليست في الأفكار ولكن في واقع العالم العربي والإسلامي.فالدول العربية إما عميلة، أو هي نفسها متآمرة على الشعوب، أو ضعيفة، أو غير مبالية، ومن الدول الإسلامية الأخرى من هي متورطة في سفك الدم السوري مباشرة. وعليه سنجد أنفسنا نعود لضرورة التدخل الأجنبي ولكن في هذه الحالة لا يجب أن يتجاوز التدخل قرار الحظر الجوي على الجيش السوري النظامي وحماية المدنيين ضمن مناطق آمنة وتوفير الظروف اللائقة للاجئين، وطلب المجرمين بشار ومعاونيه في المحاكم الجنائية والدولية، والسماح للمعارضة الوطنية السورية بالتسلح ودعمها من قبل الدول والشعوب العربية والإسلامية المقتنعة بقضيتها، مع مرافقتها السياسية للتحضيرلنظام بديل عادل وديموقراطي تحفظ فيه حقوق الأقليات الدينية والمذهبية والإثنية من خلال الحوار بين الجميع وتحقيق العدالة الانتقالية وتجسيد معنى الحقيقة والمصالحة والعقد الاجتماعي الذي ينبثق عليه دستور توافقي جديد يبنى عليه مسار انتخابي يؤسس جمهورية سورية حديثة وأصيلة تكون لصالح السوريين ولصالح الأمة العربية والإسلامية التي تنتمي إليها سوريا. هذا هو الحد الأدنى الذي يحفظ سيادة سورياومصلحة شعبها، وغير ذلك هو سقوط في مخالب التآمر الأجنبي.