ثالثا – القضية الفلسطينية
حينما سئل الدبلوماسي الأمريكي “جوشوا هاريس” عن القضية الفلسطينية والجرائم التي يرتكبها الجيش الصهيوني بمشاركة كاملة من بلده بقي يراوغ لكي لا يُحمّل الكيانَ الغاصب وبلدَه المسؤولية ولكن مما قاله في سياق تهربه من الإجابة: “إن من بين أسباب مجيئي اليوم إجراء حوار مع شركائنا الجزائريين والاستماع لوجهة النظر الجزائرية حول كيف نتناول هدفنا المشترك – بغض النظر عن الصراع القائم – المتمثل في السماح بإنشاء دولة فلسطينية”.
لم تجر الدبلوماسية الأمريكية مشاوراتها بشأن القضية الفلسطينية بعد الحرب مع الجزائر فقط كما هو معلوم، بل إن الثقل الكبير في المشاورات هو في المشرق العربي، في بلاد الطوق مع مصر والأردن خصوصا، ومع دول الخليج وبالخصوص السعودية وقطر، أما الإمارات فهي جزء من القرار الإسرائيلي.
فالتصور الذي تريد فرضه أمريكا على الشعب الفلسطيني تجده بين الدول العربية المشرقية التي تستطيع أن تذهب معها بعيدا في رسم مشهد لا يكون إلا لصالح الكيان الصهيوني، على شكل دولة فلسطينية شكلية أدنى بكثير من مضمون حل الدولتين الذي كانت تدعو إليه الدول العربية مجتمعة، وقد كشف الرئيس المصري السيسي عن جزء من الصورة الجديدة المشوهة حين قال “دولة فلسطينية منزوعة السلاح بجنب الدولة الإسرائيلية القائمة”، ثم هناك دول عربية وإسلامية أخرى تسعى أمريكا ما استطاعت أن تُؤدَّى لصالح رؤيتها أدوارا أخرى بطرق مكشوفة أو ملتوية تحت الضغط والإغراء، ومنها قطر وتركيا والجزائر وربما حتى إيران.
إن الدعم العسكري واستعمال الفيتو في مجلس الأمن والتحركات الدبلوماسية مع مختلف الدول إنما تسعى إليها الولايات الأمريكية المتحدة لإنقاذ “دولة إسرائيل” إذ أنها شعرت بأن طوفان الأقصى هز أساسات هذا الكيان فعلا، وهي تريد إنقاذ وجود الكيان ليس من ضربات المقاومة فقط، بل من تطرف نتنياهو وحلفائه في الحكومة من أحزاب التيار الديني الذين لا يوجد بالنسبة إليهم شيء اسمه فلسطين ولو كان وجودا ضعيفا ذليلا.
إن التيار المسيطر على الأغلبية في الكنيست وعلى الحكومة الإسرائيلية لا يؤمن باتفاقيات أوسلو وهو يعمل على إنهائها رسميا، وكذلك إنهاء السلطة المنبثقة عنها في رام الله، وفي نفس الوقت هم يستميتون بشكل منهجي في تدمير أي فرصة لتجسيد “حل الدولتين” الذي يتمسك به العرب ولو ضمن حدود أقل بكثير من حدود 1967.
وهذا لا يعني أن التيار الإسرائيلي العلماني المعارض، الذي يمثل الدولة العميقة الصهيونية، يؤمن بأسلو أو بأي حق فلسطيني من غير أوسلو، وإنما الذي يهمه أن يكون في فلسطين سلطة أمنية وشرطية قوية هي التي تراقب الفلسطينيين وتلاحق المقاومة وتحمي المشاريع الثقافية التي تصنع الإنسان الفلسطيني المهادن الذي سيتخلى مع الوقت عن وجود دولته ضمن المعاناة التي لا تنتهي وفي سراديب المفاوضات التي لا تتوقف، وهذا هو المشروع الذي يسعى الأمريكيون لإعادة إحيائه، مستعينا ببعض الدول العربية ومحاولا توريط السلطة الفلسطينية فيه، وما حديث الوفد الفلسطيني في الجزائر عن الشرعية الدولية إلا مؤشر عن ذلك.
تدرك أمريكا، وهي تجتهد لإحياء العملية السياسية مع الدول العربية والسلطة الفلسطينية بأن القضاء على حماس وكل قادتها مكلف جدا، وحتى وإن نجح الجيش الإسرائيلي في إضعاف المقاومة فهي تخطط (وفق قواعد عسكرية قديمة وضعها الفيلسوف سان تزو في كتابه “فن الحرب”) لترك ممر لقادة المقاومة حتى يخرجوا من المعركة مهزومين بعيدا عن الساحة الفلسطينية غير مضطرين أن يواصلوا القتال غريزيا دفاعا عن حياتهم وليس من أجل النصر، مما قد يجعل المعركة تطول وتكبر كلفتها المالية والإنسانية والدولية على الكيان وأمريكا من غير طائل.
إن هذا المشهد هو ذاته الذي تم في جوان 1982 حين اجتاح الإسرائيليون لبنان وتمكنوا من خلال تفاهمات دولية من ترحيل ياسر عرفات وقادة منظمة التحرير إلى تونس.
إن أعداء المقاومة، من عرب وعجم ومسلمين وغير مسلمين، يريدون حقا “بيع جلد الدب قبل قتله” كما يقول المثل. وكم من مرة أخطأ الأمريكيون في حساباتهم، وجروا حلفاءهم في ويلات الخطأ ، لقد أخطؤوا في فييتنام وفي العراق وأفغانستان وسيخطئون في غزة فلسطين بحول الله.لقد دخلت الولايات الأمريكية في رسم المشهد المستقبلي لإنقاذ مستقبل إسرائيل من نفسها ومن جنونها على إثر الإهانة الكبيرة التي تعرض لها قادتها في السابع من أكتوبر الماضي، ومحاولتهم استغلال فرصة الحرب والحماية التي ينعمون بها من البيت الأبيض والدول الأوربية لكي ينهوا الوجود الفلسطيني إلى الأبد، غير مدركين بأن تعجيل نهايتهم ونهاية دولتهم إنما هو في تطرفهم، وأن وجودهم على رأس الدولة المجرمة في هذه المرحلة وهذه الظروف هي هدية عظيمة للقضية الفلسطينية، وقد سبق أن بيّنا في مقالات سابقة المكتسبات الاستراتيجية الكبرى التي حققها طوفان الأقصى فلسطينيا وعربيا وعالميا بحمد الله، في وجود هذه القيادة الصهيونية الأكثر تطرفا.
غير أن العجيب في الأمر، والأمر المؤسف حقا أن الأنظمة العربية تشارك الولايات الأمريكية المتحدة في عملية الإنقاذ الكبرى التاريخية هذه، والأغرب من ذلك، وما يملأ القلب ألما أن السلطة الفلسطينية انخرطت في هذه الحسابات، فبدل أن تنخرط في المعركة أو على الأقل تسند المقاومة، ولو بالخطاب والدبلوماسية، ها هي تُظهر رأسها لتنفيذ الأجندة الدولية الأمريكية العربية الظالمة.
إنه لا يصح أن يتورط بلدنا الطاهر في هذه المهمة الدولية القذرة!لقد عرّض أعضاء الوفد الزائر لبلدنا نفسه لانتقادات لاذعة اتهمهم فيها رواد التواصل الاجتماعي من الجزائريين والفلسطينيين وغيرهم بأنهم جاؤوا لتنفيذ أجندة تفاهموا عليها في رام الله مع الدبلوماسيين الأمريكيين ومنهم آخر زائر لهم المستشار الأمريكي للأمن القومي جيك أرميا سوليفان الذي زار فلسطين المحتلة فأكد دعمه للمحتلّين الذين غصبوا الأرض ثم ذهب إلى المحتَّلين الذين فقدوا الأرض ليكلفهم بمهمة ضرب إخوانهم في الظهر وهم في جبهات القتال في غزة والضفة الغربية يواجهون تحالفا عالميا ضدهم وضد بلدهم.
إن ما تريده أمريكا والغرب من قطر قائم وواضح والقطريون يؤدونه على أحسن وجه، ودورهم في هذه المرحلة مفيد للمقاومة، في موضوع المساعدات والمفاوضات، وما يريده الأمريكان من تركيا لا ينجح كثيرا لأن تركيا تؤمن بدولتين (فلسطينية وإسرائيلية) ضعيفتين تكونان مستقبلا تحت نفوذها حين يحتدم الصراع لاحقا بين أمريكا والصين، ولكن قد تكون تركيا مفيدة الآن في الضغط على قادة حماس ليراجعوا طموحهم في تحرير كل بلدهم. أما ما تريده أمريكا من مصر والسعودية والإمارات فهو فرض الرؤية الظالمة على الفلسطينيين، ثم يأتي دور المال الخليجي لإعادة إعمار غزة والقضاء نهائيا على المقاومة وإعادة بناء الإنسان الفلسطيني الغزاوي الجديد: المهين الخانع التابع.
ولا يُطلب من إيران أمريكيا في هذه الظروف سوى تجنب توسيع الحرب في الإقليم والاكتفاء بالمناوشات التي تقوم بها أذرعها في المنطقة، وهي مناوشات لا شك مفيدة للمقاومة الفلسطينية ولو على غير ما تمناه كثير من الفلسطينيين والعرب والمسلمين.
فما هو الدور المطلوب من الجزائر؟ للإجابة على هذا السؤال نبدأ بالقول بأن أي حوار بين أمريكا والجزائر لن يكون لصالح فلسطين و المقاومة لأن الأمريكانيين لا يحاورون ليقبلوا آراء غيرهم، وإنما لفرض تصوراتهم بالطرق الأكثر خبثا، ومن خبثهم قبول الأشكال المخادِعة في إخراج السيناريوهات.
وربما هم يعتقدون بأن الجزائر في حاجة إليهم لكسر العزلة الدولية التي وجدت فيها نفسها بعد صدمة البريكس.
لا نعرف ماذا قال الأمريكيون للمسؤولين الجزائريين وراء الأبواب المغلقة، ونحن لسنا في بلد ينعم بالديمقراطية والشفافية ليكون لنا الحق في المطالبة بمعرفة ما قاله ويقوله المسؤولون الجزائريون، فلذلك لا ننسب لهم قولا.
ولكن لكي نفهم ما يحدث في بلدنا في هذا الشأن العظيم المتعلق بقضيتنا الفلسطينية المقدسة نحاول جمع المعلومات المتوفرة في وسائل الإعلام والتسريبات المتاحة ونقوم بتحليلها على القواعد العلمية للتحليل السياسي وعلى أساس الخبرة الطويلة ومعرفة طبائع الأمور هنا وهناك.
كنت أهمّ أن أكتب مقالا عن خبر غريب صدر في جريدة الأوراس الإلكترونية الجزائرية في 07 ديسمبر 2023 ، ولكن أحجمت عن ذلك في وقته لعدم توفر معلومات أكثر دقة في الموضوع، بالرغم من أن مجرد صدور الخبر في بلد لا تستطيع أي وسيلة إعلامية تناول مثل هذا الموضوع دون رقابة قبلية يجعلنا نعطيه كثيرا من الاهتمام.
ثم تم نشر الخبر في قناة تلفزيونية فرنسية كبيرة ومشهورة هي قناة LCI ، وبعد زيارة الوفد الفتحاوي الفلسطيني الجزائر وما تم التصريح به، مع اهتمام أمريكا بالموقف الجزائري، رأيت أن أعود لتناول الموضوع.
ذكرت جريدة الأوراس الجزائرية – نقلا عن جريدة الأخبار اللبنانية – بأن ثمة مشروعا فرنسيا-سعوديا عُرض على الجزائر مفاده أنه يمكن أن يتم تنسيق دولي لخروج قادة حماس من غزة [أي عند إقرارهم بالهزيمة] إلى الجزائر للإقامة فيها وذلك بسبب العلاقات الطيبة التي يتمتعون بها مع المسؤولين في هذا البلد، مقابل إطلاق سراح الأسرى في السجون الإسرائيلية وإدخال المساعدات على أن يتم تسيير قطاع غزة بعد الحرب من قبل قوات عربية تحت إشراف الأمم المتحدة، وفي النسخة الفرنسية بنفس الجريدة الالكترونية عُنون المقال ” الجزائر جزء من مخطط سعودي- فرنسي لإنهاء الحرب”.
أما القناة التلفزيونية الفرنسية فقد ذهبت بعيدا حيث أكدت بأن قطر أخبرت قادة حماس المقيمين عندها، وعلى رأسهم إسماعيل هنية، بأنهم لم يصبحوا مرغوبا فيهم عندها وأن مكاتبهم في الدوحة أخليت وأنهم سيتجهون إلى الجزائر وربما إلى تركيا أو إيران.
لا شك أن هذه المعلومة غير صحيحة إلى الآن ولكنها قد تكون بالون اختبار، وهو أسلوب تستعمله الأطراف المتحكمة في وسائل الإعلام عادة لكشف بعض الحقائق أو معرفة ردود أفعال الأطراف المعنية.
لم يتم تداول هذا الخبر في الرأي العام الجزائري ولم تتراجع الوسيلة الإعلامية التي نشرته ولا يمكن إلا أن نقول أن الجزائر لا يشرفها أن تدخل في هذه الترتيبات والحرب قائمة والرجال يواجهون العدو، والواجب إنما هو دعم المقاومة وصمود أهل غزة وليس تدبير حالة الهزيمة التي لم تحصل.
والحقيقة أن الذين يرتبون هذا التدبير لا يقدّرون قيمة الصمود الاسطوري الذي يبين عليه أهل غزة، ولا يعرفون المجاهدين الذين يقاومون الاحتلال الصهيوني في معركة طوفان الأقصى، هؤلاء الأبطال أهل الله الذين خرجوا إما للنصر أو الشهادة، كما لا يدركون الأبعاد الربانية في معركة الأمة الجارية في أرض الرباط، وأن النصر من عند الله العزيز الحكيم.
لا يحق لنا أن نطلق حكما على هذه التسريبات، رغم حذرنا الشديد من تدبير تكون وراءه أمريكا وفرنسا والسعودية، ولكن الذي أدهشنا فعلا هو الاستقبال الأعلى درجة من الناحية البروتوكولية الذي حظي به الوفد الفلسطيني من السلطة وحركة فتح رغم تدميرهم للمبادرة الجزائرية، والأغرب في الأمر أن الوفد بيّن المهمة التي جاء من أجلها على لسان جبريل الرجوب الذي صرح بأنه يريد من الجزائر أن تسعى لتحقيق الوحدة الفلسطينية، ولكن على غير ما أمضت عليه حركة فتح في “إعلان الجزائر”، وكأنه يعتقد بأن الفصائل المقاومة في غزة في حالة ضعف وأنه يمكن أن يُفرض عليها الاعتراف بإسرائيل وفق إطار الشرعية الدولية الذي ذكره في تصريحه لدى خروجه من اللقاء مع رئيس الجمهورية وقائد الأركان والمسؤولين الكبار في الدولة الجزائرية.
وبدل أن يعلن تأييده للمقاومة وبحثه سبل نجدة أهل غزة راح يؤكد على إعادة بناء مشروع أوسلو، أو ما يشبهه، من خلال انتخابات لطالما رفضتها السلطة الفلسطينية اعتقادا منه – ربما – بأنها لن تكون لصالح حماس التي – في ظنه – ستخرج من الحرب ضعيفة بسبب الخسائر المدنية المهولة، غير مقدر للمكاسب الاستراتيجية التي حققها طوفان الأقصى قبل نهاية آخر فصوله، ومن ذلك ما أقر به بنفسه في تصريحه أمام مكتب الرئيس تبون عن التحول الإيجابي في الرأي العام العالمي لصالح فلسطين. إن الذي أود أن أذكر به قادة الدولة الجزائرية المدنيين والعسكريين أن يعودوا للقيم التي أسَّست دولتنا، وهي قيم الثورة النوفمبرية، وأن يجعلوا تلك القيم والأحداث والتضحيات التي صنعتها أثناء الكفاح ضد المستعمر الفرنسي هي الحاكمة في حكمهم على القضية الفلسطينية وعلى فواعلها وفصائلها ومما أذكّر به في هذا الصدد ما يلي:
1 ‐ بالنظر لتركيز قادة فتح_السلطة على الخسائر البشرية للمز حماس وهي في أتون المعركة التاريخية طوفان الأقصى نقول لمن يسمع خطابات قادة أوسلو أن الخسائر البشرية لم تكن يوما هي المعيار الذي تم به الحكم على جيش التحرير الوطني أثناء مواجهته الاحتلال الفرنسي منذ المقاومة الشعبية إلى الثورة التحريرية، فقد وقعت مجازر فظيعة ذهب ضحيتها الملايين من الجزائريين وليس الآلاف، أغلبهم من المدنيين.
ولو كان رد الفعل الوحشي الاستعماري الفرنسي لهجومات الشمال القسنطيني التي تشبه طوفان الأقصى في أهدافها وشكلها ومضمونها هو المعيار على الحكم على قائد الهجومات زيغود يوسف لحاسبته الثورة على ذلك، ولما كان هذا اليوم عندنا هو “يوم المجاهد” الذي نحتفل به سنويا. كما أنه يمكن أن نستلهم الدرس من أن وقف الأمير عبد القادر القتال لم ينفعه حين حرص على المحافظة على دماء النساء والأطفال والشيوخ من أن يوقع فيهم الجيش الفرنسي المجرم المتوحش مجزرة إن لم يستسلم حين وجد نفسه محاصرا بين جيش السلطان المغربي والجيش الفرنسي عند الحدود المغربية الجزائرية، لقد غدر الفرنسيون بكل البنود التي تم الاتفاق عليها مع الأمير وتم الزج به في السجن في فرنسا، وتشتت بعده المقاومة الشعبية وتأجل التحرير أكثر من قرن من الزمن. فليتأمل المتأملون.
2 ‐ وبخصوص الشرعية الدولية والاعتراف بإسرائيل نذكر بأن الاستعمار الفرنسي حاول تقسيم الجزائر في مشروع ديغول عام 1959 بأن تتشكل دولة للجزائريين المسلمين ودولة للأوربيين، كما أقترح أن تبقى الصحراء تابعة لفرنسا ويرضى الجزائريون بشمالها فحسب، وفق اتفاقات لصالح الهيمنة الفرنسية، فرفض قادة الثورة الاعتراف بفرنسا على أي شبر من أرضهم وبذلوا من أجل الصحراء دماء غزيرة وواصلوا الثورة حتى حرروا البلاد كلها واحدة موحدة، فكيف يُطلب من حماس وفصائل المقاومة أن يعترفوا بإسرائيل وتقسيم بلدهم أبديا، فهل يستطيع جزائري حر أن يقترح هذا على الفلسطينيين أو يشجعهم عليه. فليعقل العاقلون.
3 ‐ وبخصوص الميل للسبق الزمني في النضال الفلسطيني أذكر بأن مصالي الحاج كان هو أب الحركة الوطنية ورمز فكرة الاستقلال، وتحت قيادته تأسست المنظمة الخاصة التي فجر رجالها الثورة، فهل شفع له ذلك بأن يبقى هو الممثل الشرعي للجزائريين حين رفض الحل الثوري الذي بادرت إليه جبهة التحرير الوطني التي أسسها أبناؤه؟ وهل استطاع فصيله “الحركة الوطنية الجزائرية” أن يثبت أمام الزخم الثوري الذي التف حوله الجزائريون؟ وعلى هذا الأساس: من يجب أن يكون الأقرب إلى الدولة الجزائرية؟ هل هي الفصائل الفلسطينية التي تسير على نهج جيش التحرير الوطني أم هي الفصائل التي تكرر الأخطاء التي وقع فيها مصالي الحاج الذي لم يتحمل أن يأتي بعده من يقود الكفاح وفضل العمل السياسي بدل الجهاد والمقاومة؟ والله كم كنت سعيدا، مرات ومرات، حينما كنت أزور بقادة حماس الفلسطينية قادة كبارا في الدولة الجزائرية حين كنت رئيسا للكتلة البرلمانية أو نائبا لرئيس المجلس الشعبي الوطني فيقول المسؤولون الجزائريون لضيوفهم أنتم أقرب إلينا بسبب خطكم الثوري، رغم علاقتنا التاريخية بفتح التي اختارت نهج المفاوضات الذي لا ينفع أبدا لإنهاء الاحتلال بدون الكفاح المسلح.
فهل ثمة شيء ما قد تغير في بلادنا؟
4 ‐ لقد كان ل”الحركة الوطنية الجزائرية” جناح عسكري أمني سمي الجيش الوطني للشعب الجزائري وانتشر أكثر باسم قائده “محمد بلونيس”، وقد كان هذا الفصيل المسلح يعتبر نفسه في هو الأولى بالثورة استنادا للزعامة التاريخية لمصالي الحاج وقيادة الحركة الوطنية الجزائرية قبل الثورة النوفمبرية، وأصبحت جبهة التحرير الوطني وجيشها هي العدو الأول لديه بدل توجيه العداء للاحتلال، وحين شعر قادة هذه القوة الأمنية والعسكرية الجزائرية المستقوين بالشرعية التاريخية بأن جبهة التحرير تسحب المصداقية والمراجعيى منهم وتنتشر بين الجزائريين تحولوا إلى الاستقواء بالاحتلال الفرنسي والتنسيق الأمني والعسكري معه فكانت نهايتهم مخزية إذ لفظهم الشعب الجزائري ولم تصبر عليهم الثورة طويلا ولم ينفعهم الاعتداد بالتاريخ.
ولم يحفظ كرامته وتاريخه منهم إلا أؤلئك المصاليين الذين التحقوا بالثورة حينما بان لهم خيانة بن لونيس، بل إن مصالي الحاج نفسه نأى بنفسه وانسحب من المشهد لما تحول ذراعه العسكري إلى ذراع للاحتلال.
على أساس هذه المعطيات الثورية التاريخية يجب على المسؤولين الجزائريين أن يساعدوا الفلسطينيين ليتحدوا ضمن رؤية الجهاد والثورة المسلحة فذلك الذي يحفظ الود بينهم ويبعد شبح الاقتتال والحسم بالقوة ميدانيا كما وقع في الجزائر حين قررت جبهة التحرير ذلك.
ولمن يريد معرفة تفاصيل هذه القضية ندله على المراجع الموثوقة، ويمكن لرئيس مجلس الأمة الحالي أن يقص ذلك إن أراد فهو من البقية الباقية من جيل المجاهدين الذين سمعنا منهم تلك الأحداث مشافهة لا دراسة فقط، بل إن عندنا من أسرنا من مجاهدي جبهة التحرير الوطني الذين قتلتهم مجموعات بن لونيس.
إن الذي بجب أن نعلمه جميعا أن كل الحلول التي تريدها الولايات الأمريكية المتحدة وفرنسا وبريطانيا وحلفائهم العرب لن تجدي نفعا في ترتيب القضية الفلسطينية بدون المقاومة، فذلك وهم لن يتحقق لهم مهما ملكوا من قوة.
ثم إن أي حل يريده هؤلاء باستعمال السلطة الفلسطينية أو توريط بعض الدول العربية لن يكون إلا لصالح الكيان الصهيوني في العاجل والآجل، وأن الذي يخسر بهذه الحلول ليس الفلسطينيين فقط بل كل دولنا العربية والإسلامية وجميع شعوبنا وكل مستقبلنا.
إنه لا يمكن للولايات الأمريكية المتحدة أن تكون دولة صديقة للعرب والمسلمين بأي حال من الأحوال، فهي الدولة التي تقود الغرب كله لإضعاف أمتنا وإبقائها في حالة التخلف المستدام. وعبارة الرئيس الأمريكي بادين: ” لو لم تكن إسرائيل موجودة لأوجدناها” هي عنوان للاستراتيجية الأمريكية تجاه المنطقة، وتصريحه بأنه “صهيوني” وأنه لا يشترط أن يكون المرء يهوديا ليكون صهيونيا يعبر عن حالة التحام كامل كالجسد الواحد مع الدولة الصهيونية وليس مجرد تحالف بين دولتين.
إن كل مهتم بالعلاقات الدولية، مسلما كان أو غير مسلم، يعلم بأن الكيان الصهيوني هو دولة وظيفية في خدمة الغرب، بمثابة ثكنة مدججة بالسلاح في موقع متقدم في جسم الأمة العربية والإسلامية لتشتيتها ومراقبتها استخباريا في كل لحظة ومنع تطورها ووحدتها إلى أن تخضع هذه الأمة كلية فتصبح تابعة للمحور الغربي نهائيا بقيادة الكيان الإسرائيلي الذي أُسس ليُضمن تفوقُه علميا واقتصاديا وفي كل المجالات وليكون متحالفا مع نخب عربية وإسلامية مستلبة حضاريا و مرتدة عن هويتها تحظى بحياة رغيدة على حساب أغلبية شعبية تعيش تحت القهر وتغرق في الفقر. وإن ما يجعل قادة الكيان الصهيوني ولوبياتهم في كل الدول الغربية يتطاولون حتى على الإرادة الأمريكية هو شعورهم بحاجة أمريكا والغرب إليهم وإلى دولتهم من جهة، واستعداد تلك النخب العربية والإسلامية سرا وعلانية للاشتراك معهم لتصفية القضية الفلسطينية من جهة أخرى، فلذلك دخول بلدنا الجزائر ذات السمعة الطيبة في القضية الفلسطينية منذ الاستقلال وقبل طوفان الأقصى في أي رواق من هذه الأروقة المظلمة هو مجازفة كبيرة ستكون تداعياتها خطيرة على بلدنا وشعبنا ومستقبلنا، ولا يبقى عند ذلك يجمعنا بهذه السلطة.
والله ولي التوفيق.