أرشيف التصنيف: سياسة

الحراك الشعبي: كيف ضاعت الفرصة؟ (1)

حمل الحراك الشعبي في الجزائر آمالا عريضة للتغيير ، واعتقد مئات الآلاف في مسيراتهم اليومية الأسبوعية أنهم قد ابتكروا طريقة حضارية لم يسبقهم إليها أحد في التغيير. لقد ظنوا بأن مسيراتهم السلمية النظيفة العامرة بالابتسامات، الخالية من العبارات الحادة، ومن الأصوات العالية، والنظرات الغاضبة، والسّير جنبا إلى جنب بجل المدن الجزائرية في مواكب متنوعة، فردية وعائلية ورجالية ونسائية، من كل التيارات والتوجهات، بدون هتافات حزبية ولا لافتات أيديولوجية ستقنع أصحاب القرار في البلاد بأن وقت التغيير قد قدِم بعد أكثر من ستين سنة من الأحادية الحزبية ثم الديمقراطية الصورية، ولا مجال للتأجيل.

لقد اعتقدوا بأن أعدادهم العظيمة وسلوكهم الراقي سيكون كافيا للتغيير والانتقال الديمقراطي ولتحويل وجهة الجزائر من الفساد والفشل والاستبداد إلى الشفافية والفاعلية والعدالة والتطور والازدهار بسلاسة ولمصلحة الجميع.

انطلق الحراك العظيم يوم 22 فبراير 2019 واستمر قرابة سنة ونصف، وأخذ يتراجع بشكل متدرّج إلى أن توقّف نهائيًا بسبب كورونا ولكن، رغم هذه المسيرات السلمية الاحتجاجية الأطول في تاريخ الجزائر وفي تاريخ  أغلب شعوب العالم لم يحقق الحراك الشعبي أهدافه، سوى إسقاط العهدة الخامسة للرئيس الراحل عبد العزيز بوتفليقة، التي لم تكن في حقيقة الأمر  سوى السبب المباشر لاندلاع الحراك، لم يتحقق شيء من الأسباب العميقة التي صنعت الاحتقان المتراكم.

إن الحالات والمظاهر السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي كانت شائعة قبل الحراك بقيت مستمرة بعده إلى الآن، وأشياء أخرى مؤسفة زادت. لم تتحسن الأوضاع الاقتصادية إذ لا زلنا نقبع تحت التبعية للجباية البترولية، ولم يعطنا فسحة من الزمن إلا ارتفاع أسعار المحروقات لأسباب خارجية ليست قابلة للدوام، وكان التوجه الرسمي أثناء تدهور الأسعار قبيل الحرب في أوكرانيا نحو مراجعة سياسة التحويلات الاجتماعية ومراجعة سياسة الدعم، وعند أول ارتفاع لمداخيل البترول تم التراجع عن ذلك والعودة المكثفة لسياسات شعبوية سنرى آثارها السيئة لاحقا حتما، ومع ذلك استمرّت الأحوال المعيشية للمواطنين متعثرة، وبالنسبة للبعض مستحيلة.

لقد بقي الشعب الجزائري، يعاني معانات ثقيلة، يعتمد الفقراء على المساعدات والتضامن العائلي، وتكابد الطبقة الوسطى  لحفظ التوازن المالي الأسري، ورغم المجهودات الكبيرة والقوانين المشجعة لم ينشأ نسيج صناعي فعلي ينتج البضائع الجزائرية ويوفر فرص الشغل للناس، وخصوصا الشباب، ولم يتحقق اكتفاء ذاتي في المنتجات الغذائية والصيدلانية، ورغم التوزيع المكثف للسكنات في مواسم محددة معلومة بقيت أزمة الإسكان مستمرة، وما يوزع يكتنفه كثير مما يمكن أن يقال.

وفي مجال الخدمات تعمقت أزمة التعليم، ونخر الفساد مختلف مستوياته الإدارية ومكوناتها البشرية، وهجر أعداد كبيرة من المتعلمين الأقسام الدراسية النظامية نحو التعليم الموازي وبرامج الدعم الذي بات هو الأصل، ولم تتحول الجزائر إلى قبلة سياحية رغم المقدرات العظيمة، ولم تتطور المنظومة البنكية والمصرفية، وظلت مستشفياتنا تسير  بأنماطها الرديئة القديمة تهجرها الكفاءات الطبية العالية، نحو قطاع خاص فوضوي أو إلى دول أخرى، ضمن هجرات العقول لتأخذ بلدان أخرى عوائد  استثماراتنا البشرية. وفي السياسة الخارجية باتت الجزائر جزيرة معزولة لا تعرف كيف تحل مشاكلها مع أغلب جيرانها.

لم يتوقف الفساد البتة بل توسعت شبكاته إلى مختلف المجالات والمستويات، ولا زال الفساد مع استحالة التدافع والرقابة على الشأن العام وسياسات تمكين الرداءة الموالية والإدارة المتكلسة وغياب الإبداع وتهميش الكفاءة هو ما يسبب في التعثر المستدام المذكور. والذي أقوله هاهنا أقوله، يعلم الله، بدون أي شغف فلم يبق للسياسة في بلدنا طعم، ولا لأنني أريد النيل من جهة أو من أحد، أو أخدم طموحا أو بغية خفية، وإنما هو الضمير فحسب.

إنه علاوة  على كل ما ذُكر مما بقي من سلبيات بعد الحراك،  ثمة مظاهر سيئة ومدمرة تنامت في الجزائر بعد الحراك الشعبي وهو ما يتعلق بمجال الحريات. لقد كنا في زمن بوتفليقة نقول ما نشاء، بل كان معارضوه يقولون فيه هو ذاته ما يتجاوز حدود المعقول، ولم تكن في عهده المتابعات وملاحقة المدونين وسجن المعارضين والمنع من السفر سلوكيات شائعة.

لقد كنت أرفع السقف ضد بوتفليقة إلى أبعد الحدود، إلى حد أن البعض اتهمني بالراديكالية، وثمة من نصحني بقوله: ” احذر من إذا قال فعل” والغريب أن هؤلاء هرعوا إلى الحراك ضد بوتفليقة حين تأكد اقتراب نهايته.

لقد كنت اتَّهم العهد السابق للحراك  بأنه عهد الفساد والفشل وأن ذلك النظام   هو الخطر الوحيد على البلد، وخرجنا الى الشوارع بلا إذن قانوني ضد العهدة الرابعة، وضد الغاز الصخري، ومن أجل فلسطين، وضمن أنشطة تنسيقية الانتقال الديمقراطي، ولم أُمنع البتة من الحديث ومن المشاركة في القنوات الفضائية، كما لم يُمنع غيري من الشخصيات السياسية الحزبية والمستقلة، وكانت السياسة المتبعة في عهد بوتفليقة هو تكليف قوى موالية لمواجهتنا سياسيا وإعلاميا، وكان بعضهم من إطارات وقيادات أحزابنا متطوعين لذلك، لم يكن بوتفليقة يمنعنا ولكن كان يفعل ذلك. خلافا لما نعيشه الآن من غلق واعتقال ومتابعات قضائية في وجوه المخالفين الجادين والمعارضين الذين لا يُلزمون أنفسهم بسقوف محددة سياسيا. وكم هو صغير ذلك التصرف الذي حدث لي قبل شهر تقريبا، حين فاجأني على غير العادة صحفي من فضائية جزائرية مشهورة دعاني لحوار معه في القناة. قلت في نفسي ربما تصرف هذا الصحفي دون مراجعة للمسؤولين فتوجهت له بعد نهاية الحصة قائلا” هل أنت متأكد بأنك ستستطيع بث هذه الحصة” فقال: “لا توجد مشكلة، لا يوجد في ما قلت ما يمنع بثها”، لم يكن يعلم صديقي بأن سياسة الغلق لا تتعلق بما يقول السياسي المعارض حقيقة فحسب، بل في ظهوره في وسائل الإعلام”، لم أشأ أن أذكر الصحفي باسمه والقناة ذاتها لأنه طلب مني التريث، ولكن هذا التصرف لا يدل على نجابةِ من كان وراءه في زمن توجد فيه طرق إعلامية كثيرة تتيح ظهورا أكثر انتشارا.

لقد وصل التضييق على المخالفين والمعارضين في هذه المرحلة حدا جعل الأحزاب والمؤسسات الإعلامية والحقوقية ومنظمات المجتمع المدني تضع لنفسها محددات ذاتية، أو ما يسمى بالرقابة الذاتية، فعرف الجميع الخطاب المسموح به وسقف النقد المتحمل، فلا يجرؤ أحد على تجاوزه، فرجعنا إلى زمان قديم غابر يسمى فيه الخطاب ” لغة الخشب”، أي الخطاب غير الناقل للمعاني والأفكار، والمواقف التي لا تصنع التدافع الضروري لمنع الفساد والاستبداد والتي لا تؤدي إلى الإصلاح والتغيير وصناعة موازين القوة الضرورية لبقاء الحياة السياسية واستمرار الأمل في التغيير. تماما كما هو الخشب المانع لنقل الكهرباء.

لقد تطلّب تجاوز خطاب “لغة الخشب” نضال عقود طويلة صنع قادةً وزعماء أصحاب مواقف وفكر ورأي وشجاعة، وهيّأ لبروز حياة سياسية حقيقية في البلاد رغم هيمنة الحزب الواحد ومخاطر التحول السياسي الخطير في التسعينات إلى غاية الحراك الشعبي، ثم ها نحن بعد الحراك نعود إلى مرحلة “موت السياسة” وشيوع “لغة الخشب” وغياب يكاد يكون كليا لرجال الفكر والسياسة والمواقف،  الذين تحرك مواقفهم وتصريحاتهم وأفعالهم الأحداث.

إنه لجدير بنا ونحن في الذكرى السادسة للحراك الشعبي أن نطرح على أنفسنا السؤال: كيف حدث هذا؟ ومن المسؤول عن ضياع تلك الفرصة العظيمة.

شاء الله تعالى أن أكون حاضرا في تفاصيل الأجواء التي صنعت الحراك الشعبي وأثناءه وشهدت على الأسباب التي جعلته يتوقف وكيف أنه لم يحقق أهدافه، وما أقدمه في هذا المقال هو تقرير مختصر عما عرفته وأعرفه، متوخيا في ما أقول الصدق والحق، مدركا حقيقة شناعة قول الزور في ديننا وفي القيم الإنسانية السوية. ولم أكن مهتما بكتابة شيء ما عن الذكرى السادسة للحراك حتى رأيت غيري قد كتب، وبعضهم لم يكن مؤيدا في الحراك في مبتدئه، وبعضهم لم  يكن محقا ولا مصيبا في ما كتب، فلا بد لي أن أقدم شهادتي راجيا من الله تعالى أن يكون ذلك مصداقا لقوله: (( ولا تكتموا الشهادة ومن يكتمها فإنه آثم قلبه))

.. يتبع

الحركات الإسلامية واضطراب المناهج (2)

الحركات الإسلامية واضطراب المناهج (٢)

حظي المقال السابق “الحركات الإسلامية واضطراب المناهج” الذي نشر في موقع عربي 21 الأسبوع الماضي باهتمام المتابعين، ووردت بخصوصه تعليقات كثيرة تردد فيها السؤال عن الحل، وعدّ بعضها بأن ما ورد في المقال هو بمثابة “مراجعة فكرية أو تراجع عن خط سياسي سابق لحركة مجتمع السلم كنت أحد المسؤولين عنه، بل قدت الحركة به”.

رأيت من المفيد أن أكتب جزء ثانيا للمقال أتفاعل فيه مع هذه الأسئلة والاهتمامات والانتقادات المشروعة، لا سيما أنها صيغت بأساليب محترمة وذات مضمون فكري.

وقبل التطرق الى الموضوع الأهم المتعلق بتصورات الحل، أود أن أؤكّد بأن تناولي لمثل هذه المواضيع لا يتعلق ببلد معيّن أو حركة من الحركات الإسلامية بذاتها، بل هي دراسات وأفكار ومراجعات تتعلق بتجربة الحركة  الإسلامية بمجملها، وأنا أحاضر في هذا المقاربات في العديد من الدول، في الندوات الحضورية والافتراضية. لا شك أن مسيرتي في حركة مجتمع السلم تمثل قاعدة ارتكاز في التجربة، ولكن لا تتعلق بها وحدها، فهي تشملها وتتجاوزها من حيث اطلاعي العميق، النظري والعملي، على كل التجارب في مختلف الدول.

أما ما ذكر أن  هذه الأفكار  هي بمثابة مراجعات عن توجهات سابقة، فإن ذلك أمرا مطلوبا لا مِثلب فيه، فالعقول الراشدة هي العقول القادرة على التطور والمراجعة بحسب ما تتطلبه تطورات البيئات والتحديات والمتطلبات، لا سيما وأننا في أجل مائة سنة على تأسيس الحركة الإسلامية ولا شيء يبقى من أفكار مائة سنة ماضية سوى الثوابت العقائدية والأخلاقية والنصوص قطعية الثبوت قطعية الدلالة العابرة للأزمنة والأمكنة، والقليل مما بينت التجربة وتوافق المسلمون على استمرار صلاحه. واهتمامي بالتطور الفكري في مناهج الحركات الإسلامية لم يبدأ بمقال ” الحركات الإسلامية واضطراب المناهج” بل كتبت في ذلك كتبا مشهورة منها كتاب “الحركات الإسلامية: الماضي، الحاضر والرؤية المستقبلية” الذي صدر في 2015 وقمت فيه بتقييم تجربة حركة مجتمع السلم منذ التأسيس الى تاريخ نشر الكتاب، وكتاب “البيت الحمسي” الأول في 2013، والثاني في 2018، ثم الكتاب المهم الذي نضجت فيه المراجعات والذي صدر في 2023  قبل خروجي من هياكل الحركة بأكثر  من سنة ” الاستنهاض الحضاري وتحدي العبور” والذي لا أتوقف عن تقديم مضامينه خارج بلادي. علاوة على المشاركات الإعلامية الكثيرة في هذا الشأن منها مشاركي في سبع عشرة حلقة من برنامج قناة الحوار “مراجعات” في 2016

وأود أن أسجل هنا بأن ثمة حدثين مهمين دفعا بي إلى مراجعات عميقة، أولهما في 1997 بعد صدمة تأسيس النظام السياسي لحزب التجمع الوطني الديمقراطي والتزوير له تزويرا شاملا في الانتخابات المحلية والتشريعية، حيث ثبت لي أن الرؤية السياسية للشيخ  محفوظ نحناح رحمه لم تصبح قائمة، حيث كان رحمه الله يعتقد – كما سمعته بنفسي منه ودأب عليه العمل –  بأن المؤسسة العسكرية ستقدّر نهجه الوطني وسمته المعتدل وشعبيته القوية التي أكدتها الانتخابات الرئاسية عام 1995 وتقبل أن يكون بديلا على أساس ديمقراطي لجبهة التحرير الوطني والجبهة الإسلامية للإنقاذ فيكون هو محور بناء تحالف وطني يقود البلد  لمصلحة الجميع. ولكن عكس ذلك كله حدث وكانت رسالة النظام السياسي له واضحة بأنك “لست أنت البديل!” و”بديلنا نصنعه بأيدينا ولو بالقوة وبالتزوير”، و”إن أردت أن تكون على الهامش فمرحبا بك”. لم أخف قناعتي عن الشيخ محفوظ نحناح إذ أفصحت  له  عن رأيي بأنه لا بد من تغيير النهج السياسي والابتعاد عن السلطات الحاكمة والتحول إلى معارضة وطنية واضحة، والاستثمار في مؤسسات المجتمع المدني، وكتبت له في ذلك عام 1997  مذكرة نشرتها في عدة مناسبات منها كتاب ” مبادرات لحل الأزمات”، وبقيتُ على هذا الرأي إلى اليوم، بل كلما مر الزمن تأكدت التوجهات التسلطية غير الديمقراطية للحكم،  وطورت مقاربات تلك المذكرة – التي هي منبع أفكاري السياسية والاستراتيجية – عبر العديد من المساهمات منها الكتب التي ذكرتها أعلاه.

أما الحدث الثاني فهو فشل المفاوضات بيني وبين رئيس الجمهورية عبد المجيد تبون على اثر النتائج الجيدة التي حققناها في الانتخابات التشريعية عام 2021، حيث بذلنا مجهودا كبيرا لتحقيق تلك النتيجة، رغم التزوير والعزوف الانتخابي،  حتى نكون مؤهلين للانتقال من مرحلة المشاركة السياسية التي نكون بها في واجهة الحكم إلى مرحلة الشراكة الفعلية في الحكم وفق نتائج الانتخابات.

  كنا نعتقد أن الحراك الشعبي سيحدث تغييرا مهما في أفكار والسلوكيات السياسية للحكام في الجزائر ليقبلوا منطق الشراكة في الحكم مع القوى السياسية المتجذرة في المجتمع الجزائري، ولكن الخطاب الذي واجهنا به رئيس الجمهورية هو ذات الخطاب الذي كان مع من قبله، بأن يختاروا هم لنا وزراءنا ولا دور لنا سوى الترشيح، ولا حظ لنا في البرنامج ولا علاقة لنا بالمواقع المهمة في الدولة.

لقد أكد لي هذا الحدث بأن العمل السياسي التقليدي في الجزائر  ميؤوس منه وأن العمل الحزبي لن يؤدي وحده إلى التغيير أبدا،  وأن سيرورة الانتخابات المعهودة ستبقى شكلية لا تساهم إلا في تثبيت ديمقراطية الواجهة.

لقد مثل فشل المحاولة  صدمة كبيرة لي أكّدت بأن سقف المعارضة السياسية الذي نحن عليه غير  مناسب لتجنيد الجماهير وصقل إرادة المناضلين من أجل التغيير، وقد صارحت المسؤولين الذين كانوا حولي في قيادة الحركة، و الذين بوّأتهم  بنفسي مواقع المسؤولية العليا فيها،  عدة مرات بأن سقف المعارضة السياسية الذي نحن عليه ليس سقفي وإنما هو سقفٌ توافقي تحريت فيه احترام نفسياتهم و ميولاتهم السياسية، وكذلك أهمية الانسجام ببننا.

لم يكن باستطاعتي المضي أكثر في تنفيذ الأفكار التي دونتها  في كتاب الاستنهاض الحضاري وتحدي العبور، رغم النتائج الإيجابية التي حققها هذا التوجه في إطاره عام، ولم يكن ضمن خياري إحداث تحول ثوري داخل الحركة لتجسيد فكرة مسارات التغيير الثلاثية الواردة في الكتاب، بسبب بقاء سنتين فقط على نهاية عهدتي، وبسبب الملل الذي شعرت به لطول بقائي في هذه المسارات التقليدية دون نتيجة حاسمة،  فقررت أن أغادر الهياكل طامعا في أن الأجيال التي من بعدي سيكون لديها الوقت لتفهم يوما ما حالة الاحتباس التي فيها العمل السياسي في الجزائر فتتحمس أكثر لكتابة التاريخ بواسطة العمل الحزبي وصناعة ما لم استطع صناعته بنفسي،  وقد تركت لهم المقاربات التجديدية مكتوبة مؤصلة،  واعتقدت أنه سيسعني – من جهتي – الفضاء الفسيح في المجتمع وعلى المستوى الدولي لأواصل النضال الحر دون أي قيد تنظيمي، وأن عملي سيصب في المحصلة لصالح الحركة، وأننا سنصنع معا في الأخير، بشكل تكاملي، نموذجا جديدا ومنهجا متجددا تستفيد منه الحركة الإسلامية في العالم العربي والإسلامي.

 لا يجهل أحد  أن التعاون مع الحركة التي مارست فيها الوظيفة القيادية لعقود طويلة  لم يتحقق، لأسباب نضعها عنده سبحانه ونتركها للتاريخ، ولكن مساهمتي في نشر الأفكار لا تتوقف ولا يحدها الزمان والمكان بحمد لله، راجيا من الله القبول، وأن تثمر في يوم من الأيام في أي مكان كان.

لم يصبح يهمني أن أعارض مناهج التغيير التي تسير عليها التيارات الإسلامية غير الإخوانية، فقد بينت الأحداث بأن المناهج  ليست من الثوابت، وإنما المآلات هي الحاكمة فثمة من كان يسمَّى إرهابيا صار رئيسا لدولة تتنافس الدول للاتصال به وتتباهى الشخصيات السياسية والفكرية، الرجالية والنسائية، المحلية والدولية،  التي كانت تعارضه لأخذ الصور معه،  بل إن بعض الدول التي كان يقاتلها صارت تعقد معه الاتفاقيات.

 غير أنني من جهتي لا زلت أؤمن بالمنهج السلمي في التغيير، ولا زلت أؤمن بأن المشاركة في الانتخابات لا تزال مفيدة في التدافع إن كانت ضمن استراتيجية المقاومة السياسية و السقوف المرتفعة والمنافسة الفعلية على السلطة الفعلية، وإن لم تكن وحدها التي يشتغل عليها القادة المناضلون، بعيدا عن سجون المصالح المعنوية والمادية الشخصية الضيقة. وكم كنت أضرب المثل بقادة الحركة الوطنية حين كانوا يشاركون في الانتخابات المزورة التي تنظمها الإدارة الفرنسية وهم في ذات الوقت يعدون للثورة.

بالرغم من أنني لم أكن راضيا عن السقوف السياسية التي كنت عليها وأنا على رأس حركة مجتمع السلم، وأعترف بذلك دون حرج، ولكن أقدّر بأنني استطعت أن أطبق المعالم الكبرى للمنهج الجديد الذي لم أغادر القيادة حتى صغته في مجمله في كتاب الاستنهاض الحضاري وتحدي العبور، ولو أتيحت له الفرص ليواصل التجسيد لكان ربما جديرا بأن يصنع نهضة الحركة والبلد ويساهم في نهضة الأمة.

 ولذلك جوابي على من يقولون و”ما الحل؟” في تعليقهم عن الجزء الأول من مقال “الحركات الإسلامية واضطراب المناهج” هو أن يعودوا إلى كتابي ” الاستنهاض الحضاري وتحدي العبور”، خصوصا الفصل الثاني منه.

 يتضمن الفصل الأول – تحدي العبور –  مضامين فكرية كثيرة عن التحديات الجديدة التي تواجهها الحركات الإسلامية وتمنعها من العبور بالفكرة الإسلامية الى الدولة لتنتقل من مرحلة الصحوة إلى مرحلة النهضة، والتي يجب التجديد فيها. ويتضمن الفصل الثالث – مواضيع العبور – المواضيع ومفاتيح الملفات الكبرى التي تحكم بها الحركات الإسلامية إن وصلت للدولة في مختلف المجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والفنية وفي العلاقات الدولية. 

أما الفصل الثاني – مسار العبور – فهو الجواب عن سؤال “ما الحل؟” وقد بينت فيه بأن العبور بالفكرة من المجتمع حيث صنعت الصحوة، إلى الدولة لكي تتحقق النهضة ثم الإقلاع الحضاري، يتم عبر ثلاثة مسارات أساسية.

أولها المسار التنظيمي والإداري وما يلزم ذلك من تطوير وتجديد في المنظومات التنظيمية والإدارية والموارد البشرية، لا سيما القيادية منها، على مستوى الفكر والعلوم والمعارف، وعلى مستوى التربية والأخلاق والسلوك، وعلى مستوى الكفاءة والمهارات، وعلى مستوى الإنجاز والفاعلية.

 وثانيها المسار الاستراتيجي وما يتعلق بصناعة القوة الناعمة في إطار قانوني يقوم على المبادرة والنضال  في المجتمع على المستوى الدعوي والاجتماعي والفني والإعلامي والمالي والنقابي والشبابي والنسوي، وغير ذلك، بواسطة شبكات المجتمع المدني الواسعة،  وعبر ما سميته بنظرية ” قطع الحبل السري” للتفريق بين اللجان والأمانات المحلية والمركزية للأحزاب التي تشبه الأعضاء الملتصقة بالجسم من جهة، والمؤسسات المجتمعية التي تشبه الأولاد والذرية من جهة أخرى، والتي يكون نجاحها باستقلالها العضوي عن الجسم مع الاجتماع في الرؤية والرسالة، ولا ضمان في نجاح الأمر سوى وحدة الفكرة وأخلاق الصدق والوفاء والمروءة والمقاصد المشتركة والقدوة والأهلية القيادية الجاذبة وذات التأثير.  وذلك ما يمثل مقاربة “التخصص الوظيفي” لصالح الفكرة الإسلامية في المجتمع بغض النظر عن الأحزاب التي تحملها، بما يضمن مستقبلا توفر رأي عام عميق يجسد الديمقراطية والتداول السلمي على السلطة ضمن المشروع الحضاري الإسلامي الواحد، على نحو مازعي عليه الأحزاب في الغرب التي تتداول ضمن المشروع الحضاري الغربي، المسيحي اليهودي، الواحد.

إنه لو قلّدت مختلف قوى الإصلاح والتغيير في العالم الإسلامي  فكرة الخط  الاستراتيجي والتخصص الوظيفي فذلك ما يصنع قوة المجتمع وحماية أصالته، ولا يمكن لأي سلطة ظالمة أن توقف مدها إذ أنها لن تستطيع أن تبرر ضربها لعدم ارتباطها عضويا بالأحزاب، إلا أن تقرر تلك السلطات غلق المجتمع كله، وقتل المبادرة في المجتمع كلية، بما يجعل الأمر ينقلب عليها عاجلا أم آجلا. 

أما مسار العبور الثالث فهو المسار السياسي، ويمكن إيجاز التفاصيل الكثيرة التي وردت في هذا الفصل من الكتاب  بالقول أن شرط الوجوب لهذا المسار وجود قيادة عازمة على التغيير ولا أشواق لديها في عملها أعلى من تحقيق التغيير إرضاء لله تعالى وخدمة لأوطانها وأمتها، ذات كفاءة وصدق ومصداقية، تثق في الله ثم في نفسها و في المؤمنين، تؤمن بأن التأييد الحقيقي هو الذي يكون من الله ومن الشعب مصداقا لقوله تعالى (( هو الذي أيّدك بنصره وبالمؤمنين))،  لا تشعر بأي عقدة تجاه النظام السياسي، لا تخافه ولا تطمع فيه، ولا تحرص على إرضائه أو تحقيق الاعتراف منه بوجودها، تعمل الصواب فحسب، تعتمد المنهج السلمي وتعلن عن حب الوطن لأنها تؤمن بذلك، لا تنافق في الأمر ولا تزايد  إلى حد السماجة ولغة الخشب، خطابها قوي مبني على العلم وكشف الفساد والرداءة بلا تشخيص ولا سباب ولا انتقام، تؤثر العافية كما جاء في الحديث الصحيح،  ولكنها تستعد لتقديم كل التضخيات، ولو بالنفس،  كما جاء في حديث صحيح  آخر: “سيد الشهداء حمزة، ورجل قام إلى إمام جائر فأمره ونهاه، فقتله”، يتمحور عملها السياسي كله حول النضال من أجل تغيير موازين القوة لصالح المجتمع ولصالح فكرتها وأهدافها، وتتجنب أي سلوك سياسي يعين الاستبداد ويزيد في عمره.

أما العبور العملي للفكرة فهو عبر ثلاثة معابر، منفردة أو متوازية: أوله المعبر الديمقراطي الانتخابي بشرط نضال الأحزاب بلا هوادة لجعل الديمقراطية حقيقية والحريات مصونة والانتخابات غير مزورة، وتُقدّم في طريق ذلك أنفس التضحيات، لا تقبل التزوير وتندد به مهما كان مصدره والمستفيد منه والمتضرر به، وتؤهل تلك الأحزاب نفسها لتكون بديلا حقيقيا عبر ما يسمى في الدول الديمقراطية ب ” حكومة الظل” أو ما نسميه نحن ” اللجان القطاعية المتخصصة” ببرامج ناضجة وموارد بشرية جاهزة للحكم. وبغير  هذا النوع من النضال تصبح المشاركة في الانتخابات خدمة مجانية للاستبداد ومساهمة فاعلة في استمراره. وقد بينت التجارب البشرية  بأن النضال الجاد والتضحيات الجسام من أجل الانتقال الديمقراطي يمكن أن تجسد الديمقراطية والانتخابات النزيهة والتداول على السلطة. 

والمعبر السياسي الثاني هو التحالفات مع قوى أخرى تريد التغيير، سواء قوى من داخل النظام السياسي أو من خارجه، وهذا المعبر لا يمكن أن ينفتح دون توفر الحركات الإسلامية على القوة والنفوذ بما يجعل القوى الأخرى تطمع في التحالف معها، وذلك عبر تجذرها في المجتمع وتسلحها بأسباب القوة المتنوعة والمتعددة، وعلى رأس تلك الأنواع قوة الفكر وجاذبيتها وصلاحيتها وأهليتها للحكم، وتعاطف أصحاب النفوذ في الدولة والمجتمع مع الفكرة ورجالها. وهذا نهج حقق نجاحات كثيرة، في العصر الحالي، وهو النهج الذي رسّخه المصطفى عليه الصلاة والسلام وسار عليه إلى أن أقام دولته في المدينة.

والمعبر السياسي الثالث، وهو الثورات السلمية الشعبية، التي تَحقق التغيير بواسطتها في العديد من الدول، ولا يمكن للحركات الإسلامية أن تتحول إلى أحزاب حقيقية، تتماثل مع المعايير الطبيعية العالمية للأحزاب إلا إذا آمنت إيمانا كاملا بالتغيير السلمي عن طريق الشارع، وهو حق ديمقراطي ثابت دون حاجة للترخيص تؤكده القوانين والدساتير، ولكن تتهرب  منه بعض الحركات الإسلامية إرضاء للحكام وخوفا من المواجهة. وحينما تتهرب الحركات الإسلامية من النضال بقيادة الشارع فهي تفتح المجال لسيناريوهات خطيرة، ذلك أن ثورات الشارع حالة سننية لا تستشير أحدا حين تقبل، وإنما تستجيب لشروط وظواهر سياسية واقتصادية واجتماعية وتدافعات محلية ودولية، إذا حلّت بسببها حركة الشارع، فهي حالة احتقان تشكلها عوامل سننية  تفجرها صواعق قد تكون غير متوقعة تماما. والحركات الجادة هي التي لها القدرة على استشراف التحولات، وعلى قيادتها إذا وقعت ولو بدون قناعة بها أو مشاركة في تحريكها، وعلى تقديم البدائل التي تحل المشاكل التي تسببت فيها وتمنع تعقيداتها وانفلاتاتها.

إن عدم تدرب الحركات الإسلامية على قيادة حركة الشارع، وعدم فهم لغة الشارع والحديث بها، سيتيح الفرصة لأربعة سيناريوهات إذا خرج الناس يطالبون بحقوقهم من تلقاء أنفسهم ودون قيادة واعية وذات خبرة، إما احتواء النظام السياسي القائم للمشهد وتسخيره للاستمرار في السيطرة ضد إرادة الشعوب ومصالحهم، أو استغلال التحول الشعبي من طرف قوى سياسية وأيديولوجية معارضة للنظام السياسي القائم وأسوء منه، أو استعمال قوى أجنبية أ استعمارية لحركة الشارع للتدخل والتآمر على البلد، أو حدوث فوضى عارمة لا قيادة تضبطها أو فتنة عمياء والعياذ بالله.

إن أفكار التغيير هذه التي أصلناها في كتاب تحدي العبور والاستنهاض الحضاري ليست نظريات وتخيّلات بعيدة عن الواقع، فقد جرّبناها ووضعناها على محك التجربة في حركة مجتمع السلم بين 2013 – 2023، وحققت نتائج جيدة على مسارات العبور الثلاثة، إذ حققنا إنجازات معتبرة في بناء المؤسسات وفق نظرية ” قطع الحبل السري” ومقاربة ” التخصص الوظيفي”، وتوصلنا إلى نتيجة انتخابية جيدة على المسار الانتخابي و ناضلنا من أجل الحريات والانتقال الديمقراطي وساهمنا في في تجسيد مفهوم لغة الشارع التي أسقطت العهدة الخامسة، وأخرجنا موارد بشرية فاعلة ومتعلمة و ذات أخلاق ومهارات  هي اليوم منتشرة في مختلف الهياكل والمؤسسات محليا ومركزيا وفي الخارج.

غير أن ما بذلناه بما يكفي لبناء النموذج وتصديره، لم يكن كافيا لتحقيق التغيير المنشود،  وبقي يتطلب استمرارا وتطويرا وتصعيدا أكثر على مستوى المسارات الثلاثة والمعابر الثلاث. ولئن أخطأَت حساباتي في مواصلة تجسيد المنهج على مستوى الحركة بعد خروجي من هياكلها، فإني على يقين بأن الله سيسخر له من يحقق الطموحات عبر تيار عام في الأمة أرى تشكله قد بدأ يلوح في الأفق، كان طوفان الأقصى المسرّع إليه.   

سقوط النظام السوري: الأبعاد والمآلات.

بدأنا مقالنا الأول عن سوريا  بعنوان “تطور الوضع في سوريا : الواقع والمآل”، فكانت الأحداث أسرع منّا إذ تهاوى النظام السوري بشكل سريع ومذهل، بما يجعلنا نغير العنوان ليصبح : “سقوط النظام السوري: الأبعاد والمآل”. وقد قصدنا فهم خلفيات السقوط السريع من خلال اِستحضار مختلف التطوّرات الحاصلة على مستوى القوى الإقليمية والدولية ذات العلاقة، فبدأنا الحديث عن إيران ووضّحنا التحولات الداخلية والخارجية التي جعلت هذا البلد يُحجم عن نجدة حليفه السوري بشار الأسد، وسنتناول في هذا المقال الخلفيات التي أدّت إلى تحوّل الموقف الروسي وتخليه عن النظام الذي أنقذه من قبل من السقوط، وفي مقالات مقبلة سنتطرق إلى تطورات وخلفيات الموقف التركي، ثم سياسات وطبيعة الموقف الأمريكي والإسرائيلي من الأحداث، ثم نتحول إلى الحديث عن مكوّنات قوى المعارضة وخلفياتها الأيديولوجية وعلاقاتها مع القوى الأجنبية، لنخلص في الأخير لدراسة السيناريوهات المحتملة للشأن السوري والقضية الفلسطينية والمنطقة كلها. 

2 – روسيا: 

لقد كان للتدخل الروسي في الأحداث في سوريا دور أساسي في حسم الصراع المسلّح لصالح نظام بشار الأسد ضد فصائل المعارضة المسلحة، منذ 30 سبتمبر / أيلول 2015، وكانت حجّة الروس حينذاك محاربة الإرهاب،  ثم اعتبرت أن لوجودها الطويل في سوريا طابعا شرعيا على أساس أنّ قواتها حطّت رحالها في الأرض السورية بطلب من الدولة السورية “الشرعية”. وقد استغلت هذا الوجود القانوني لتوسيع قاعدتي حميميم وطرطوس ليتجاوز وجودها في سوريا الأزمة السورية إلى حماية مصالحها في المنطقة كلّها وكلّ الفضاء الجغرافي المطلّ على البحر الأبيض المتوسط. 

غير أنّها لم تكن تجهل تناقص المصالح وصراع الإرادات الدولية في بلاد الشام، فما إن أنهت وجود القوى المسلحة في شرق حلب بقوة نارية جبارة ذهب ضحيتها كثير من المدنيين الأبرياء؛ قتلا وتهجيرا، حتى اِتجهت إلى الاِتصالات الدبلوماسية من خلال مسار أستانا مع تركيا وإيران. 

اِكتفت ترتيبات مسار أستانا بالاِتفاق على خفض  التصعيد، وهو ما نقل القضيّة السورية نوعا ما إلى ما بعد بيان جنيف 2012 الذي بني عليه قرار مجلس الأمن 2254 في 2015 المدعوم من أمريكا، والذي اِقترح مشروعا سياسيا كاملا يقوم على تغيير الدستور وبناء نظام سياسي جديد يستوعب كلّ الطوائف وإجراء اِنتخابات حرة ونزيهة. 

لقد كان لروسيا دور كبير في تعطيل المسار السياسي، مدعومة بإيران، ثم زاد البعد عن الحلّ السياسي محاولات تركيا فتح صفحة جديدة مع النظام السوري من أجل حلّ مشكلاتها المتعلقة بالمهاجرين والأكراد، وحين اِنفتحت الدول العربية على بشار الأسد من جديد اِنغلق الأفق السياسي كلية وظنّ بشار بأنّه حسم الأمر نهائيا، رغم بقاء هذه الدول متمسكة بالحلّ في إطار ذات القرار الأممي.

لا شك أنّ قرار مجلس الأمن كان على الهوى الأمريكي ممّا أفقد الثقة فيه عند العديد من الأطراف ولكن لم يُعرض أي بديل له من داعمي النظام، أو الجامعة العربية أو منظمة التعاون الإسلامي، سوى ما صرح به وزير الخارجية السوري فيصل المقداد في مايو 2023 بأنّ “بلده سيطبق ما يهمه من مضامين القرار 2254”!

ولكن بعد كلّ هذه المجهودات لحماية النظام السوري ظهر الموقف الروسي اتجاه التطورات الجديدة باهتا، بشكل مفاجئ وغير مفهوم لدى الكثيرين. وقد بدا عدم الاِهتمام واضحا من الوهلة الأولى عبر طريقة تناول وسائل الإعلام الروسية للأحداث، حيث لم تتحرك البروباغاندا الروسية المعهودة، واِكتفى مذيعو القنوات ووسائل الإعلام الأخرى  بنقل الأخبار ، واِهتم المحلّلون بتقديم التحليلات والتفسيرات فحسب. ثم جاءت تصريحات المسؤولين فأكّدت بأنّ بشار  بات بلا دعم فعلي من صديقه بوتين.

اِكتفى المتحدث باسم الكرملين بالتصريح في اليوم الثاني من هجوم المعارضة في 29 نوفمبر/ تشرين الثاني بدعوة “السلطات السورية إلى اِستعادة النظام الدستوري بسرعة” مصرحا بأنّ “روسيا تقوم باتصالات مناسبة وتحليل الوضع” وأنّها “ستسعى لتحقيق الاِستقرار في سوريا”، ومؤكدا بأنّ “روسيا قادرة على تقديم المساعدة للنظام السوري اِعتمادا على تقييم الوضع ميدانيا”. وقد تكون هذه التصريحات مؤشرا على أنّ الأمر لا يتعلق بعدم القدرة على تقديم المساعدة وإنّما ثمة توجه آخر يستند على دراسة تطورات الوضع الميداني. 

لا شكّ أنّ هذه التصريحات قد اُلتقطت من قادة الجيش النظامي فعلموا أنّه لا يمكنهم الاِعتماد لا على إيران كما بيّنا سابقا ولا على روسيا، ممّا جعلت معنوياتهم تنهار وصفوفهم تتفكك وأخذوا بالفرار من جبهات القتال. ويمكننا أن نقول بأنّه لم يصرح أي مسؤول دولي تصريحا مهينا للنظام السوري المتهالك ، كما كان تصريح مسؤول روسي مقرّب من الكرملين، وفق ما نقلته وكالة بلومبرغ، الذي قال فيه: “إنّ روسيا لا تملك خطّة لإنقاذ بشار الأسد ولا ترى إمكانية لإيجاد واحدة، طالما اِستمر الجيش في التخلي عن مواقعه”، وحينما دعت السفارة الروسية رعاياها إلى مغادرة دمشق كانت اللعبة قد أغلقت على حليف الأمس.

سارعت كلّ من روسيا وتركيا وإيران إلى الاِجتماع لمناقشة إمكانية تخفيض التصعيد وفق مسار أستانا، ولا شكّ أنّ ما جمعهم هو خوفهم من التدخلات الأمريكية، إذ أشار جميعهم إلى القوى الكردية الحليفة للأمريكيين، بل إنّ لافروف أشار إلى مصلحة الإسرائيليين في تغيير الوضع في سوريا. ثم اِلتحق بهذا الثلاثي مجموعة الدول العربية الخمس، ودخل الجميع في النقاش للعودة إلى القرار 2254، غير أن الذين كانوا في الميدان لم يمهلوا أحدا ودخلوا دمشق وأسقطوا الطرف الذي كان يطلب منه دوليا أن يدخل في المفاوضات من أجل تطبيق القرار، وبعد فرار الأسد لم يبق إلا طرف واحد وهو الطرف المنتصر، ولم يبق شيء يناقَش عن مستقبل سوريا سوى مع هؤلاء. 

لا شكّ أن اِنشغال الروس بالحرب  مع أوكرانيا يمثّل سببا رئيسا في إحجامهم عن التورط مجددا في المواجهة المسلحة في سوريا، وقد يكون بوتن قد أحسّ بأنّه يراد اِستدراجه في جبهة أخرى تستنزفه. غير أنّ  ثمة أسبابا أخرى بالغة الأهمية أثرت في موقف  تراجع الطرف الروسي عن دعم النظام السوري، سوى بعض الطلعات الجوية القليلة غير ذات الجدوى. 

إنّ جذور ذلك قد تعود إلى تغيّر الموقف التركي ورغبته في الحوار مع بشار الأسد لحلّ مشكلة اللّاجئيين والتوصّل إلى تفاهمات بخصوص الملف الكردي، وقد عُقد بهذا الشأن لقاءات رسمية عالية المستوى بين المسؤولين الأتراك والروس، واِتصل بوتن نفسه  ببشار الأسد بهذا الخصوص فرأى تصلبا كبيرا منه. 

وعلاوة على ذلك بات ثمة تفهّم كبير من القيادة الروسية لحاجة الأتراك للتدخّل المباشر في سوريا بغرض كبح جماح منظمة قوات سوريا الديمقراطية الكردية المسنودة والمسلحة والمحمية من الخصم المشترك؛ الولايات الأمريكية المتحدة. كما أن التداخل العميق للمصالح الاقتصادية والجيوستراتيجية، بين تركيا وروسيا ساعد على تحقيق الاِستقرار في الخطوط الدبلوماسية بين البلدين، ومن ذلك تجنب الاشتباك بين الطرفين بأيّ شكل من الأشكال مهما كانت الصعوبات وحل المشاكل المعقدة وتضارب المصالح بالاِتصالات الاستخباراتية والدبلوماسية. 

ثمّ إنّ ثمة مصلحة مشتركة أخرى بين البلدين، وهو الرغبة الثنائية في تحجيم الدور الإيراني في سوريا، حيث أنّ روسيا كانت دائما تعتبر بأنّ إيران هي البلد الوحيد الذي ينافسها فعليا، سياسيا واِقتصاديا، في سوريا ومع النظام السوري ويُعقّد عليها تحكمها في الأوضاع في المنطقة، وقد بين هذا الامتعاض الروسي ما كان يتداوله محللون سياسيون في القنوات الروسية في نقد النظام السوري، واِتهمه البعض أنه يلعب على حبلين. 

ومن جهة أخرى ظلت البرودة في العلاقات بين إيران وتركيا ثابتة رغم الحوار القائم بينهما، ولم يكن أردوغان ينظر إلى تعنت بشار الأسد في الدخول في الحوار إلّا من زاوية أنّه مسنود في موقفه من إيران. وبسبب التطورات الداخلية والخارجية التي حكمت الوضع الإيراني أصبح إخراج إيران من اللّعبة ممكنا، وقد ساعد على ذلك شعور عدد من الدول العربية بأنّ اِنفتاحهم على الأسد كرئيس دولة عربية لم يبعده عن إيران وأنّ مصانع المهلوسات (الكبتاجون) في سوريا التي اِشتهرت بها عائلة بشار والمقربين منه أصبح ترويجها في الدول العربية بمثابة حرب ضدهم. 

وكلّ هذه الاعتبارات تأخذ كثيرا من المصداقية؛ الأخبارُ التي تؤكّد على أنّ تفاهمات روسية تركية كانت قد تمت قبل الهجوم تضمن مصالح روسيا، وخصوصا على مستوى القاعدة العسكرية في حميميم وطرطوس. وممّا يساعد على قبول هذه الأخبار أن المعارضة لم تتعرض للوجود الروسي بأيّ شكل من الأشكال، وأنّه خلافا للقوى الإيرانية وحزب الله اِلتزمت التشكيلات العسكرية والأمنية بدون إجراءات اِستثنائية مواقعها، رغم المشاركة الروسية الكبيرة في ما لحق الشعب السوري من بلاء عظيم.

ولا يمكن من وجه آخر إغفال اِلتزام روسيا بحماية الكيان الصهيونىّ من خلفيات تراجع روسيا عن حماية النظام السوري، فهي لا يهمها أن تعجز إيران عن اِستعمال الأراضي السورية لدعم حزب الله ونقل السلاح إليه، إن كانت تضمن مصالحها. 

وفي كلّ الأحوال، لا يعتقد أنّ روسيا كانت تريد أن يحدث اِنهيار تام للنظام السياسي، وإنّما كانت تريد تغيير شيء من الواقع على الأرض لصالح المعارضة وتركيا لكي يقبل الجلوس على الطاولة بخصوص ضمانات سلامة اللاجئين عند عودتهم وحلّ معضلة علاقته المشبوهة مع القوى الكردية الموالية لأمريكا، ولكنّ الأقدار شاءت غير ذلك، ولم يكن ثمّة من يستطيع وقف زحف قوى المعارضة نحو دمشق حين أتيحت لها الفرصة.

تطور الوضع السوري: الواقع والمآل

في تطورات متتالية وسريعة منذ 27 نوفمبر / تشرين الثاني الماضي حققت المعارضة السورية تقدما عسكريا كبيرا في الشمال الغربي للبلاد يقدر إلى حد الآن بحدود 22 ٪؜ من الأراضي، سيطرت فيها على محاور استراتيجية ومدن مهمة منها حلب إدلب وحماة وعدة مطارات وكليات عسكرية وثكنات عسكرية وعدد كبير من العتاد العسكري.
بدا هذا التقدم السريع والواسع مفاجئا لكثير من المراقبين، وبات السؤال المتكرر الذي يُطرح هو أين سيصل توسع المعارضة على حساب النظام السوري وما هي آثار ذلك على المنطقة، ويلح المنخرطون والمساندون لطوفان الأقصى والحرب ضد الكيان ما هو مآل ذلك بالنسبة للقضية الفلسطينية.
سنحاول أن نفهم خلفيات هذه التحولات المهمة من خلال تتبع أوضاع الأطراف الدولية والإقليمية ذات العلاقة وأهدافها ومكاسبها وخسائرها. ولكن قبل ذلك لا بد أن نؤكد مسألة مبدئية وهي أن النظام السوري نظام مجرم أوغل في دماء السوريين وهجّر الملايين منهم وسلم البلد للأجانب وأدخل سوريا كلها في مأساة عظيمة، وكان بإمكانه أن يحل الأزمة التي انفجرت في ظروف الثورات الشعبية العربية في 2011 عبر الحوار السياسي والحلول السلمية، لا سيما وأنه دُعي إلى ذلك من قوى المقاومة فرفض واختار القمع والإجرام. وفي كل الأحوال لا يمكن لحاكم فعل في شعبه مثلما فعل بشار الأسد في السوريين أن يستتب له الملك طويلا، ونهايته ستكون مؤكدة سواء في هذه الأحداث أو لاحقا، وأن السكان الذين ظلمهم وهجّرهم من حقهم استرجاع بلداتهم ومنازلهم وإنهاء غربتهم وتشردهم .
إن من أهم أسباب الانتصارات العسكرية التي حققتها المعارضة هو الانهيار السريع للجيش السوري في مواقع الاشتباك ، إذ ما إن تأكد ضباط وجنود هذا الجيش بعدم التدخل القوي لروسيا وإيران و حزب الله لنجدتهم حتى تركوا مواقعهم وعتادهم وفروا إلى الخطوط الأكثر أمنا. وقد أكد هذا الضعف والانهيار بأن النظام كان في طريقه إلى الزوال في وجه الانتفاضات الشعبية السورية، وأن الذين كانوا يديرون المعركة ضد الشعب السوري إنما هو الجيش الروسي والجيش الإيراني ومقاتلو حزب الله، وقد تحولت المعركة في الأرض السورية إلى معركة بالوكالة بين عدة مشاريع : المشروع الغربي الأمريكي الصهيوني، المشروع الروسي، المشروع الإيراني، المشروع التركي. فصار الوضع معقدا بمثابة الفتنة العمياء التي تذر الحليم حيران.
لا نريد أن نتطرق إلى طبيعة هذه الحرب الإقليمية، بل العالمية، بين مختلف المشاريع ولكن نحاول فهم ما يحدث في الوضع الراهن من خلال تطور أوضاع مختلف القوى الإقليمية والدولية، وذلك على النحو التالي:
١ – إيران: ربما يعتبر أهم تطور في المنطقة، كان له أثر على الأحداث القائمة حاليا في سوريا، هو تراجع المشروع الإيراني. ولا يُعزى هذا التراجع فورا إلى الحرب مع الكيان الصهيوني، والضربات التي تلقاها حزب الله، فقد بينت الضربات الصاروخية المكثفة التي وجهتها إيران لدولة الكيان بأن لها القدرة على الفعل، ولو رغبت في توجيه ضربات صاروخية للمعارضة السورية أثناء تقدمها لفعلت. ولكن ثمة تطورات أعمق تسكن في الداخل الإيراني، حيث أن طول الحصار المضروب على هذا البلد، والتحولات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والثقافية الداخلية، دفعت الى صعود التوجه الذي يريد إحداث تغييرات في السياسة الخارجية الإيرانية ليصبح هذا البلد بلدا عاديا يهتم بشؤونه الداخلية وحل أزماته الاقتصادية من خلال إنهاء الحصار والتصالح مع المحيط الخارجي، ويساند هذا التيار الإصلاحيون المعروفون في الشأن السياسي، و”البزاريون” وهم معروفون في الشأن الاقتصادي كطبقة قوية من رجال الأعمال الذين ساندوا الثورة في عهد الخميني ثم باتوا الآن يبحثون عن بيئة أعمال أفضل، وقد تُوّج هذا الصعود في الانتخابات الرئاسية السابقة على حساب المحافظين القريبين من المرشد الأعلى والحرس الثوري.
تعود هذه الخلافات إلى سنوات عديدة سابقة، وتعتبر فترة الرئيس محمد خاتمي محطة مهمة في بروز هذه الصراعات، وقد اطلع الرأي العام على رسالة صارمة وجهها نفر من قادة الحرس الثور، منهم قاسم سليماني، إلى خاتمي يحذرونه فيها من تساهله مع مظاهرات الطلاب في يوليو / جويلية 1999، وبقي الخلاف يتصاعد إلى أن بلغ أشده في الفترة الأخيرة.
عندما تهيكل الخلاف وأخذ طابعا أمنيا توجه الحرس الثوري، خصوصا في عهد قاسم سليماني، إلى فصل قوى المقاومة عن التحولات السياسية داخل إيران، وبدأ يجهز ويدرب القوى الشيعية في مختلف البلدان، خصوصا سوريا والعراق ولبنان واليمن، لكي تحافظ على قدراتها العملياتية مهما كانت الظروف في الداخل الإيراني. غير أن الخلاف بلغ أشده في السنوات الأخيرة ووصل الى حد بات الاتهام يتداول داخل الشبكات المساندة لمحور المقاومة بأن مقتل قاسم السليماني والرئيس الإيراني السابق ومن كان معه في الطائرة التي سقطت، وكذا إسماعيل هنية ونصر الله كان بتخابر داخلي من قوى تريد إخراج إيران من الصراع، خصوصا الوضع الذي وجدت نفسها فيه بعد طوفان الأقصى دون أن تخطط الدولة الإيرانية لذلك.
لا يتوقع أن تكون المواجهة بين التيارين سهلة، فالتيار الاصلاحي ومن على شاكلته يستفيد من التطورات الإقليمية والدولية، وعلى قوته الاقتصادية، والتمركز المؤسسي ويستند على أغلبية شعبية لا تحكمها الأيديولوجية الصلبة، والتيار المحافظ يملك قوة عسكرية جبارة، وتتجه الشرعية الدينية لصالحه، وله قوة اقتصادية وكتلة مالية كبيرة، ولأنصاره جلد وصبر كبيرين، وهو يستطيع أن يحدث انقلاباً بالقوة لو لا التطورات العميقة في المحيط.
أما عن حزب الله فهو غير قادر على العودة الى المغامرة التي تورط فيها سابقا، من جهة أنه في وضع صعب بالنظر للخسائر التي تلقاها في مواجهته مع الكيان، ومن جهة أن المشروع كله في تراجع كبير والحلفاء الذين احتاجوا اليه سابقا غير راغبين في النجدة العسكرية لبشار الأسد إلى حد الآن، ومن جهة أنه ربما لا يرغب في افساد صورته مرة أخرى بعد أن رمم الكثير منها في انخراطه في طوفان الأقصى نصرة لأهل غزة، ومن جهة أن الأمر لم يصبح مجديا أمام الانهيارات الكبيرة للجيش السوري وهو يرى أن تدخلاته السابقة ذهب مفعولها هباء منثورا.
ضمن هذه التطورات الداخلية، لم يتم نجدة بشار الأسد من قبل ايران بشكل مباشر وقوي، ليس لأن إيران ليس لها القدرة، ولكن لأن القرار السياسي غير موجود، أو ربما غير متفق عليه، بسبب الكلفة الكبيرة المتوقعة، لا سيما أن التدخل الإيراني هذه المرة قد يجلب المواجهة المباشرة مع قوة إقليمية لها مصالح حيوية هي تركيا، والموقف الروسي غير واضح لحد الساعة، فالأفضل لإيران البحث عن حلول دبلوماسية من خلال مسار أستانا مع روسيا وتركيا.
٢ – روسيا
… يتبع ..

كيف نفهم وقف إطلاق النار في لبنان؟

حاول الاحتلال الصهيوني وقادة الولايات الأمريكية المتحدة وطوابير العمالة إظهار اتفاق وقف إطلاق النار بأنه هزيمة للمقاومة وأن طوفان الأقصى كله آيل للانكسار، وقد أثر خطاب هذه القوى الظالمة في معنويات كثير من مناصري الحق الفلسطيني وداعمي المقاومة، كما جاء هذا التحول على هوى المتخاذلين والمخذلين الذين يريدون الرجوع إلى دوائرهم الآمنة فلا تنغص عليهم الحالة الفلسطينية الملتهبة وصور المآسي السكانية في غزة حياة الدعة والهدوء المألوفة.

من يعتقد بأن المعركة قد انتهت فهو واهم، سيبقى طوفان الأقصى يظهر عجائبه، وما هذه الهدنة إلا وجه من وجوه هذه الظاهرة العجيبة، ولعل أعظم درس نستشفه من المواجهة المسلحة بين جيش الكيان وحزب الله، أننا أمام صورة جديدة واضحة بيّنة لحقيقة الجيش الإسرائيلي، وما يمكن أن يحدث له حينما يحكم البلاد العربية والإسلامية حكام سادة أشاوس يمثلون حقيقةً شعوبهم، فهذا الجيش الإسرائيلي  الذي هزم البارحة ستة جيوش عربية واحتل كامل فلسطين وسيناء والجولان في ستة أيام لم يستطع بعد سنة كاملة أن يحتل أكثر من كيلومترين من جنوب لبنان، ورغم الضربات المباغتة التي وجهها لحزب الله فقضى بها على طبقة قيادية كاملة من وحدة الرضوان والمجلس الجهادي وعلى رأسها الأمين العام، والرجل التاريخيّ الرمز حسن نصر الله، ظلت البلدات المحتلة التي يسكنها الاسرائيليون تتلقى القصف الصاروخيّ، ألحق ببعضها أضرارا جسيمة، كبلدة المطلة  وكريات شمونة والمنارة، بل إن تل أبيب نفسها لم تأمن، وحين تتحدث وسائل الإعلام بأن الهرع إلى الملاجئ يصل إلى أربعة ملايين فهذا يبين حجم مأساة الإسرائيليين لمدة أكثر من سنة.

إن الاسرائيليين فهموا بأنهم تورطوا في الحرب في لبنان، وأنها ستكون حرب استنزاف مدمرة لهم ولمستقبلهم، وأنه لا يمكن أبدا تحقيق أهداف الحرب المعلنة المتعلقة بنزع سلاح حزب الله وكسر خط المقاومة في لبنان، فقبلوا وقف إطلاق النار واعتمدوا على الولايات الأمريكية المتحدة لتحقق لهم مكاسب شكلية تحفظ لهم ماء الوجه، كمسألة خروج حزب الله إلى ما وراء نهر الليطاني وانتشار الجيش اللبناني في جنوب لبنان وعدم السماح لحزب الله بالتسلح وصناعة السلاح.

 فحزب الله رغم الخذلان الكبير الذي تعرض له من قبل الطابور الخامس اللبناني وضغط الحواضن الاجتماعية التي لا تناصره، والأوضاع الصعبة لحاضنته التي شردت في اللجوء،  بقي جزء أساسيا من منظومة الدولة، وهو جزء من الجيش الذي سينتشر في لبنان، واللاجئون الذين سيعودون إلى مساكنهم في الحدود مع فلسطين كثير منهم هم منه وله، علاوة على أنه حظي بتأييد كبير رسمي وشعبي من القوى السنية التي قاتل بعضها معه، فهو قد خرج بمكانة معتبرة وسيجد الطرق المناسبة لإعادة بناء ما خسره في الحرب.

غير أنه لا يمكن أن نقول بأن حزب الله خرج منتصرا مظفرا في هذه الحرب، إذ الهدف الأساسي الذي اندفع من أجله للمواجهة قد توقف، وهو مناصرة غزة ووحدة الساحات. لا شك أنه أعطانا صورة واضحة لضعف الجيش الاسرائيلي ومنهجا متكاملا في كيفية هزيمته وإنهاء وجود الاحتلال  من الأراضي الفلسطينية  في مستقبل غير بعيد ولكن الضربات القاسية التي تلقاها والضغوطات الخارجية ومخاطر الانفلات الداخلي ضده ألجأه إلى قبول وقف القتال في لبنان دون أن يتوقف في غزة. وهو في كل الأحوال مشكور مبرور على النصرة التي منحها، والتضحيات الجسيمة التي قدمها مختارا بتلقاء نفسه دون أن يستشار في إطلاق طوفان الأقصى يوم السابع من أكتوبر من السنة الماضية.

وإذا ما سألنا عن مصير غزة وهي تواجه مصيرها وحدها فإن أول ما نقوله أن لها الله العزيز الجبار المتكبر، ولسان حال مجاهديها وسكانها هو قول الله تعالى في سورة آل عمران: ((  الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزادَهُمْ إِيماناً وَقالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ (173) فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ (174) إِنَّما ذلِكُمُ الشَّيْطانُ يُخَوِّفُ أَوْلِياءَهُ فَلا تَخافُوهُمْ وَخافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (175)))، ثم إن الطريقة التي دخل بها حزب الله الحرب شغلت الاسرائيليين ولكنها لم تكن حاسمة في وقف العدوان على غزة، إذ أن حسابات حزب الله واستراتيجياته وتكتيكاته الحربية في البداية لم تكن على النحو الذي آلت إليه في الأخير إلى درجة أنه فرض وقف الحرب على لبنان، فلو دخل بكل قوته منذ البداية كانت الأمور تكون مختلفة ومؤثرة في مسار الحرب على غزة. وعليه فإنّ سُكونَ جبهة لبنان لن يؤثر دراماتيكيا على الأوضاع في جبهة فلسطين في غزة والضفة، ولا توجد جريمة لم يقترفها الصهاينة لتحقيق أهدافهم ضد حماس وحاضنته، فعلوا من الجرائم ما لا تتحمله الجبال، فما حرروا الأسرى ولا أنهوا المقاومة، ولا فرضوا قوة عميلة تسير القطاع،  فماذا عساهم أن يفعلوا أكثر مما فعلوا، فالمسألة مسألة  ثبات ورباطة جأش ومواصلة استنزاف العدو ولو بوتيرة أقل مما كانت عليه، بما يجعل بقاء جيش الكيان في غزة مكلفا يوما بعد يوم.

والأهم من تفسيرات الخنوع والخذلان الذي يسارع إليه ضعاف النفوس في أمتنا، وبدل حالة الإحباط والبقاء في مشاعر الإشفاق  تجاه أهلنا في غزة فإن الواجب أن تهب الأمة قاطبة لنصرة غزة وتغطية الفراغ الذي سيتركه حزب الله، وهذا الحديث يتجه أكثر إلى الذين أغرقونا في خطاب الطائفية ضد حزب الله، ها هو الحزب قد توارى عن معمعة الحرب فأرونا بطولاتكم وخذوا خشبة سباق التتابع (على نحو ما قاله القائد أسامة لأحدهم)!

أما تهديدات بايدن فهي من جنس جرائمه السابقة في حلفه مع الكيان في عدوانهما على أهلنا في فلسطين، أما قوله وقول وزير خارجيته وعدد من المسؤولين الآخرين في البيت الأبيض بأن وقف الحرب في لبنان هو للتفرغ لحماس فهو شرف لحماس وتأكيد للعالمين بأن معركة الشرف إنما هي في فلسطين وأن أشراف الأمة هم أبطال المقاومة الفلسطينية قبل غيرهم. وفوق ذلك سيسعى بايدن  ذاته بدعم من خليفته ترامب لإبرام صفقة أخرى مع حماس قبل رحيله، وما حديثه بأن لدى حماس خيار واحد هو تسليم الرهائن إلا  هراء لا طائل منه، وقد أعطته المقاومة الجواب فورا بأنهم ثابتون على مطالبهم لوقف القتال، وأيم الله قد صدقوا! هل يمكن أن ترفع الراية البيضاء بعد كل تلك التضحيات الجسام في وجه جيش بدأ ضعفه بينا في لبنان وفلسطين. فإن تم الاتفاق على وقف القتال في غزة قبل مغادرة بايدن  بما يحقق مطالب الفلسطينيين  فهو ذاك ولله الحمد، فإذا لم يتم ذلك فإن مجيء ترامب قد يكون أضمن لنهاية العدوان، ذلك أن الديمقراطيين محكومون بالمؤسسية والتأثير العميق باللوبيات،  والمؤسسية لها قدرة على الصبر والمثابرة، أما ترامب قد يظهر منه عنف أشد في البداية ولكن إذا رأى الثبات والصمود لدى الفلسطينيين فإن ذهنيته التجارية ستدفعه للتفاوض من أجل وقف القتال ليفي بوعده الانتخابي وليوقف نزيف الخسائر المادية لبلده دعما لإسرائيل،  وليتفرغ لأشياء أخرى تهمه أكثر على الجبهة الصينية، والحرب في أركرانيا. أما إن قامت القوى الحية في الأمة بواجبها لتحريك الشعوب في كل البلدان في الساحات وبمحاصرة السفارات الأمريكية على سبيل المثال، وربما تسرب أعداد من المقاتلين الشباب إلى ساحات المعركة ضد الكيان وبروز أمارات على تحول طوفان الأقصى إلى طوفان الأمة فإن دفع الرئيس الأمريكي المقبل لوقف التوتر سيكون مؤكدا.

إن مسؤولية الأمة بعد توقف الحرب في لبنان  صارت كبيرة جدا، لقد كشف دخول حزب الله الحرب ومن ورائه ايران حالة الخذلان في باقي الأمة الإسلامية في عالم السنة، ونأي إيران وحلفائها بالنفس عن الحرب سيكشف هذا الخذلان أكثر إن لم تتحرك الأمة بحكوماتها وقواها الحية لنصرة غزة والضفة، لا سيما أن تحولات كبيرة في الداخل الإيراني ستدفع إيران للانشغال بنفسها، فرئيس الجمهورية الجديد ينتمي لتيار يؤمن بالتخفف من التبعات الخارجية والتركيز على بناء الذات وهو تيار قوي يحمله “البزاريون” الذين يسيطرون على جزء معتبر من القطاع الخاص في الاقتصاد الإيراني، ولا غرابة أن يكون هذا التيار قد شارك مع الأمريكان في مفاوضات وقف إطلاق النار، وسيكون ذلك سبيلا مناسبا لإعادة مناقشة الملف النووي بعد عودة ترامب لتجنب التهديدات التي أطلقها بايدن ونتانياهو بعد الاتفاق على وقف إطلاق النار. أما الجناح الإيراني القوي المرتبط بالحرس الثوري والمرشد الأعلى فقد تلقى ضربات موجعة بعد وفاة قاسم سليمان والرئيس السابق، وخصوصا بعد مقتل حسن نصر الله الذي كان يمثل ركيزة أساسية في الرؤية الثورية ضد الاحتلال الصهيوني في المنطقة، وسيتطلب رجوعه للفعل والتأثير وقتا ثمينا.

إن الزمن إذن هو زمن عالم السنة، ولئن وقع الاستبدال بالإيرانيين وحلفائهم إلى غاية اليوم فإن الاستبدال هذه المرة سيكون من داخل عالم السنة بتيار عام في الأمة يغير كل الموازين لصالح فلسطين ولصالح الإسلام والمسلمين والبشرية جمعاء.

ما الذي سيتغير مع عودة ترامب؟

إن اختيار الأمريكيين بين كاميالا هاريس ودونالد ترامب هو خيار بين مقاربتين  مختلفين في إدارة الشأن العام الداخلي وتوجيه السياسة الخارجية الأمريكية، مع اجتماعهما في الثوابت الأمريكية في المجالات الاقتصادية والثقافية الحضارية وفي الفلسفة الحاكمة للمنظومة  الاقتصادية الرأسمالية، ونفوذ اللوبيات الكبرى وعلى رأسها اللوبي الصهيوني.

فكاميلا هاريس هي فرد في منظومة مؤسسية قوية، لم تختر نفسها ولكن اختارتها المؤسسية الراسخة، التي تصرفت في سلوكها وأفكارها وخطابها وقرارتها بعد ترشيحها،  وهي المؤسسية التي تحكمها الفلسفة الحضارية الأمريكية الغربية الرأسمالية المهيمنة، بحزبيها الديمقراطي والجمهوري اللذين لم يكن بينهما فروق جوهرية قبل ترامب.

أما دونالد ترامب فقد جاء كنتيجة لمرض هذه المؤسسية الرأسمالية ضمن صعود موجة اليمين المتطرف في الدول الرأسمالية في أوربا وأمريكا.

كان اليسار سابقا هو المعبر عن الآثار الاجتماعية السلبية للتوجهات الرأسمالية الليبيرالية والنيوليبيرالية، ولكن الجزء الأكبر من اليسار اتجه إلى الوسط منذ منتصف ونهاية التسعينيات بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، واقترب من اليمين بفعل إكراهات السياسة وتحكم اللوبيات المالية وأرباب الشركات العابرة للقارات في قادته الجدد الذين لم يكن لهم رصيد ثوري ونضالي في اليسار التقليدي، وكان توني بلير أبرز قائد يساري دفع إلى تغيير أيديولوجية هذا التيار، ولم تبق إلا أقليات في أقصى اليسار تكافح ضد عقيدة السوق واستغلال الشعوب، تحافظ على توجهاتها التحررية في الجانب الشخصي والعائلي ولكن تكافح كذلك لصالح حركات التحرر من الاحتلال، وقد وجدت في العدوان الاسرائيلي على غزة فضاء واسعا عبرت فيه بقوة مدهشة عن وقوفها مع القضية الفلسطينية ومناهضة الصهيونية فجلبت إليها أصوات العرب والمسلمين رغم الخلافات الأيديولوجية والسلوكية  الكبيرة، وقد برز ذلك بشكل أكثر في فرنسا مع حزب فرنسا الأبية.

حينما اكتملت سيطرت اللوبيات المالية على الساحة الحزبية في أوربا وأمريكا، وترك اليسار أيديولوجيته العمالية الاجتماعية، أفرزت الرأسمالية المتوحشة تيار اليمين المتطرف الذي لجأت إليه الفئات الشعبية المحبطة من تدهور ظروف المعيشة، غير أن هذا التيار اليميني الصاعد لم يشكك في التوجهات الرأسمالية، ولم يتعب نفسه في  البحث عن بدائل تعالج ديكتاتورية المتحكمين في الثروة وإنما حملوا اللاجئين المسؤولية واتهموهم بسرقة مناصب الشغل من السكان، وتهديد ثقافة البلدان التي أقاموا فيها، وأنهم البيئة التي ينشأ فيها الإرهاب.

حاولت كاميلا هاريس مواجهة خطاب ترامب الذي ركز على طرد المهاجرين غير الشرعيين، باستمالة الأقليات بوعود انتخابية تشبه خطاب اليسار الأوروبي فاقد المصداقية، كمسألة الرعاية الصحية والتحفيزات في مجال السكن، وتعزيز الفرص الاقتصادية للطبقة الوسطى من خلال تخفيف التكاليف الضريبية عن الطبقة الوسطى والدنيا وزيادة الضرائب على الأغنياء والشركات الكبرى  إلى 28% وفق ما ورد في تقرير وكالة بلومبيرغ. غير أن الناخبين في الطبقات المستهدفة لم يصدقوها، كما لم يصبحوا يصدقون يسار أوربا،  وعدُّوها خادمة للوبيات المالية وأن وضعهم ازداد سوء في فترة حكم الديمقراطيين.

 لن يستطيع ترامب هو الآخر إصلاح الوضع الاقتصادي في أمريكا أثناء عهدته، سيكتفي بالخطاب الشعبوي والإجراءات التسكينية،  وتحميل المهاجرين المسؤولية، وابتزاز الأمم الغنية الضعيفة لأخذ خيراتها وأموالها مقابل المال، وسيطلق العِنان لنفسه في مسألة الاستغلال المفرط للطاقة الأحفورية التقليدية وغير التقليدية دون مراعاة المخاطر البيئية واضطراب الأسعار في السوق الدولية،  فهو ذاته صورة من صور الأزمة الاقتصادية العالمية.

لن يستطيع حل مشكل الاقتصاد الأمريكي لأن المنظومة الرأسمالية نفسها في أزمة مستدامة، يقول عنها العديد من علماء الاقتصاد والاجتماع الغربيين، منهم عالم الاجتماع الأمريكي إيمانويل فالرشتاين، بأنها نهاية منظومة وليست أزمة اعتيادية للمنظومة،  وحتى الفلسفة الليبيرالية التي وراء النظام الرأسمالي انتقلت من فلسفة حرية في المجالات الاقتصادية والسياسية وغيرها إلى نمط تفكير لاهوتي، السوق هو بمثابة الإله القوي، وله أنبياء وتوصيات لا يمكن تخطيها، على حد استطلاع رأي العديد من الباحثين في مختلف التخصصات قام به الكاتب الفرنسي ستيفان فوكار، وعبارة إله السوق وعبادة الاستهلاك والشهوات صارت دارجة عند كثير من الفلاسفة في العالم، وما ترامب إلا واحد من أنبياء المنظومة، فهو ذاته ملاحق في قضايا أخلاقية كثيرة كانت ستدخله السجن، ربما، لو لا نجاحه في الانتخابات، كما أنه سياسي تاجر يسوس الشأن العام بالصفقات والابتزاز والاحتيال، وليس له من مبادئ سوى الربح وتعظيم الفائدة.

إن المرجح أن تكون ولاية ترامب الثانية ذات أثر كبير على الوضع الداخلي في أمريكا من الناحية السياسية والاقتصادية والاجتماعية، فهو يملك الأغلبية في المجلسين ولن تكون له، على الأقل في مدى عامين، كوابح تمنعه من تنفيذ مخططاته.

إن مخططات ترامب تستجيب في الأساس لتيار شعبي عام تشكل على يمين الحزب الجمهوري  يعتبر أصحابه أنهم يمثلون أمريكا الحقيقية، البيضاء  ذات الجذور الأوربية البروتستانتيّة،  على نحو الوصف الذي ذكره صامويل هنتنتن في كتابه “من نحن؟ تحديات الهوية الوطنية الأمريكية”  الذي صدر عام 2005، وقد تصاعد هذا التيار كرد فعل للتيار التقدمي الذي نشأ على يسار الحزب الديمقراطي والذي مثل صعود باراك أوباما الصورة الأبرز له.

لم يتماسك التيار  التقدمي في الحزب الديمقراطي بعد أن خفت الحلم الأمريكي الذي “يدمج كل الأعراق والديانات والشرائح” منذ أن اتضح بأن باراك أوباما ذاته هو ( أو صار ) جزء من المؤسسة الأمريكية التقليدية التي تحسن استغلال التنوع لاستمرار بقائها فحسب، كما تعمق التشتت حينما اعتقد الديمقراطيون بأن المؤسسية وما تملكه من أدوات جبارة تعفيهم من الحاجة إلى قائد كارزمي جامع و مقتدر يحافظ على الحلم ويعطي الأمان للجميع والهيبة أمام الآخرين، فكان اختيارهم لجو بايدن مدمرا لهم ثم كان استخلافه بكمالا هاريس أكثر إحباطًا، غير أن ثمة سببين رئيسين آخرين وراء خيبة أمل التقدميين في الحزب وهما الأوضاع المعيشية وجرائم قادة الحزب في غزة، والفوضى الحاصلة في العالم، وتلك هي المعطيات التي استغلها ترامب كما أشرنا إليه سابقا.

ولئن تزعزع تماسك التيار التقدمي الذي نشأ على يسار الحزب الديمقراطي فإن التيار اليميني الشعبوي الذي تشكل على يمين الجمهوريين [والذي كان بروزه الأول مع حركة “حزب شاي” الذي تأسس عام 2008 ] قد وجد شخصا قويا استطاع أن  يجمعه ويحوله إلى ظاهرة فرضت نفسها من خارج المؤسسية الأمريكية وهو دونالد ترامب أو ما يسمى بالظاهرة الترامبية.

ثمة تفاعلات كثيرة غير واضحة العواقب ستحدث في الداخل الأمريكي  في العهدة الثانية لترامب تتداخل فيها طموحات البيض اليمينيين للسيطرة على المؤسسات والقرار في كل المستويات، وطموحات الملونين السود واللاتينيين الذين تتصاعد جرأتهم أكثر فأكثر و الذين سيصبح عددهم الإجمالي قريبا اكثر من عدد البيض، وتفاعلات القضية الفلسطينية وتصاعد فاعلية العرب والمسلمين والأمريكيين الآخرين المتعاطفين معها، والأبعاد الاقتصادية والاجتماعية والمشاكل المعيشية التي لا يظهر لها أفق للحل ضمن هيمنة الرأسمالية المتوحشة التي ستطغى أكثر، والاختلافات القيمية والثقافية التي تتعمق بشكل أبين، والتطورات الدولية التي ستفرض نفسها على أمريكا وتقلص من أثرها وهيمنتها في العالم.

أما عن التطورات الدولية فإن صعود ترامب يجسد موجة متصاعدة في العالم يسميها الفلاسفة ومفكرو العلوم السياسية ” الأوليغارشية – الديمقراطية” وهي الديمقراطيات المرتكزة على حزب أو شخصية قوية مهيمنة تصعد إلى الحكم بالانتخابات الديمقراطية ولكن تكون متحكمة في القرار دون إشراك فعلي للمواطنين وممثليهم في ذلك، ويعدّون أنظمة القوى الصاعدة من هذا النوع في روسيا والصين والهند وتركيا وإيران على سبيل المثال.

يتحدث  المؤرخ والعالم الأنثروبولوجي الفرنسي إيمانويل تود عن تحلل الديمقراطية الأميركية، و”نهاية نظام الاستحقاق والانتقال إلى نوع من الأوليغارشية المغلقة التي سدت آفاق الحراك الاجتماعي والارتقاء المهني”، وكما تنبأ هذا الفيلسوف بنهاية الاتحاد السوفياتي فقد تنبأ مجددا بقرب أفول أمريكا،  التي لم يعد فيها، حسبه، فرق بين التسلطية النخبوية الليبيرالية والاستبداد الروسي، وأن ذلك التسلط المتصاعد، لدى الجمهوريين والديمقراطيين، هو الذي سيعمق الأزمات الاقتصادية والفروق الاجتماعية والثقافية مستقبلا في الولايات الأمريكية المتحدة بما يسرع أفولها، وما الجديد الذي يمثله ترامب في هذا الشأن إلا أنه يُظهر حقيقة هذه الأوليغارشية الانتخابية الأمريكية التي يحاول الديمقراطيون إخفاءها.   

إن أكبر المتضررين من رجوع ترامب هي دول الاتحاد الأوربي، وبالذات الأحزاب التقليدية في اليمين واليسار ، الذين يرون في ذلك تشجيعا لأحزاب اليمين المتطرف، كما أنه سيتَكشّف لهم بفزع كبير الآن حجم الورطة التي أدخلهم فيها الديمقراطيون الأمريكانيون بشأن الحرب في أوكرانيا. يمثل ترامب توجها مختلفا عن الديمقراطيين في السياسة الخارجية، فهو لا يؤمن بالتحالفات الدولية المستقرة وهو ينتمي إلى حد ما إلى ” النزعة الانعزالية” الأمريكية  والتي يمثلها في خطابه شعار “أمريكا أولا”. وبالرغم من أن له شركاء في البنتاغون والكونغرس من لا يرون ذلك سيعمل على جعل علاقة أمريكا بالأوروبيين على أساس المساهمات المالية في الحلف الأطلسي  وتقليص ميزانية الدعم الأمريكي بالسلاح لأوكرانيا، وعدم التدخل المباشر في الحروب، وعدم الالتزام بالدفاع المبدئي عن الحلفاء .

لقد مثل انسحاب امريكا من أفغانستان في عهد بايدن دون تنسيق مع الأوربيين مخاوف كثيرة لدى هؤلاء فقرروا الاعتماد على أنفسهم بوضع سياسة  دفاع أوربي مشترك في لقاء بين مؤسساتهم العسكرية في الأسبوع الموالي للانسحاب، ولكن أمريكا أفهمتهم بأن خلفية الانسحاب هو تمتين تحالفات المعسكر الغربي، في مواجهة الصين وروسيا. ولقطع الطريق عليهم ورطتهم في الحرب مع روسيا ( ضد مصالحهم)  ليبقوا تحت المظلة الدفاعية الأمريكية.

أما ترامب فإنه سيمثل تهديدا أكبر لهم بسياسته الانعزالية المحمية جغرافيا والتي لا تخضع للتحالفات الإستراتيجية بعيدة المدى كما هو شأن المؤسسية الأمريكية. تحالفاته غير متوقعة التحولات وتقوم في جوهرها على الصفقات الموضعية، غير أن الورطة في أوكرانيا كبيرة وقد يبدأ الأوربيون بتغيير مقارباتهم في العلاقة مع روسيا وربما في العلاقة بينهم على مستوى الاتحاد الأوربي.     

أما عن الدول  الصاعدة دوليا وإقليميا فإنها ستكون بالمجمل سعيدة برجوع ترامب، وذلك بسبب سياسته الانعزالية التي لا تكترث بالأوضاع الداخلية للدول، ولا يهمها الحديث عن الديمقراطية ووضع الأقليات، ولو نفاقا كما هو حال الديموقراطيين، وعليه سيكون الحوار مع ترامب أسهل للبحث عن مصالح مشتركة قريبة الأمد.

ستكون روسيا هي الأكثر سرورا بسبب المشاكل التي سيسببها ترامب في علاقته  بالناتو ، واحتمال إنهاء الحرب في أوكرانيا بما يكون أكثر كسبا لبوتين. وبعد بوتين سينظر أردوغان إلى عودة ترامب بالنظر للعلاقة السيئة  بينه وبين الديمقراطيين، ولسهولة تواصله معه وعقد صفقات لصالح الطرفين، خصوصا إذا استطاع أن يبعده عن دعم الأكراد كما كان الحال مع المؤسسية الأمريكية في عهد بايدن.

أما بالنسبة لإيران فإن الأمر ملتبس، يصعب لمن يعتمد على المعلوم عن العقلية الترامبية أن يصدق بأن أمريكا ستتورط في الحرب مع إيران كما يأمل نتنياهو، ولكن إن لم يستطع  ترامب كبح جماح المجرم نتنياهو ووقف الحرب فإن الاحتمالات تصبح واردة بحسب تطورات الأزمة، وقد تكون عهدة ترامب الثانية هي سبب ميلاد القنبلة النووية الإيرانية، بسبب إمكانية تعثر المفاوضات .

أما الدولة التي ستعتبر أن صعود ترامب يمثل تهديدا لها فهي الصين، من جهة أنه ثمة اجماع عند الخبراء والاستراتيجيين وأصحاب القرار في أمريكا أن الصين هي الخطر الأول والأكبر على الهيمنة الأمريكية، في مجال التجارة والتطور التكنولوجي حاليا وفي مجال الجيوستراتيجي والعسكري لاحقا، ولذلك كل الإجراءات الكبرى التي اتخذت في امريكا هو باتفاق الديمقراطيين والجمهوريين، مثل ” قانون الصين” لتمويل الأبحاث العلمية، واتفاقية أوكوس مع المملكة المتحدة البريطانية وأستراليا، واتفاقيات الدفاع المشترك مع اليابان وكوريا الجنوبية وغير ذلك. ومن جهة أخرى هناك البعد التجاري لشخصية ترامب التي جعلته يشتبك في هذا المجال عدة مرات مع الصينيين في عهدته السابقة، غير أن الصينيين يمكنهم الاطمئنان بعدم تفضيل الساكن الجديد للبيت الأبيض لخيار الحرب بخصوص قضية تايوان،  وعليه سيلعب القرب الجغرافي لصالح الصين في هذه القضية، والقادة الصينيون لهم القدرة على المناورة في القضايا التجارية .

أما بخصوص الدول العربية، فإن الأكثر ابتهاجا بصعود الترامب هي المملكة العربية السعودية التي وجدت صعوبات كبيرة في ضبط العلاقة مع الديمقراطيين الى درجة أنها اتجهت شرقا تجاه روسيا والصين وكادت تقيم ثكنة عسكرية صينية على أرضها، وهي لا تخشى الرئيس الأمريكي الجديد لأنها ستكون مستعدة لتدفع له، ولن يكون عندها مشكل للانضمام إلى قطار التطبيع بحسب مآلات طوفان الأقصى، وستجد الإمارات فرصة لها بعودة ترامب لقيادة المنطقة نحو  اتفاقيات أبراهام، وهو لن يحاسبها على علاقاتها المتميزة مع بوتين واعتماد هذا الأخير على الإمارات في الاستيراد واعادة تصدير البضائع الروسية، للتحايل على الحصار  الغربي الأمريكي. أما باقي الدول العربية والإسلامية فستبقى تحت السقف الأمريكي كائنا من كان الذي يحكمها.

غير أنه بإمكان الدول العربية والإسلامية، لو تعي وترشد،  أن تعرف أن العالم سيتجه إلى شكل من التعددية القطبية التي ستزداد فرصها مع الوضع الجديد في أمريكا، وأن تلك مصلحتها وفرصتها، ولكن دون ذلك رؤية وخطط وعزائم ووحدة على تحقيق المصالح المشتركة غير متوفرة للأسف الشديد.

وعن القضية الفلسطينية سيحاول ترامب أن يضغط على الجميع لإنهاء الحرب ومنع توسعها.  وسيكون الأكثر صبرا وقدرة على الصمود، بين الفلسطينين والإسرائيليين،  هو الأكثر استفادة من الواقع الجديد، وبلا شك لن يكون الحكام العرب داعمين للفلسطينيين في هذا الشأن.

وبما أنه لا يمكن أن يطلب من أهل غزة والضفة الغربية أن يقدموا أكثر مما قدموه ولا يمكن أن تتحمل ايران وحلفاؤها في محور المقاومة العبء كله نيابة عن الأمة لدعم فلسطين ولبنان، فإن الأسلوب الذي سيفهمه ترامب ويتفاعل معه بشكل إيجابي لصالح القضية الفلسطينية هو أن يتحول طوفان الأقصى إلى طوفان الأمة، وتنخرط كل القوى الحية في المعركة في كل أنحاء العالم العربي والإسلامي ومعهم الأحرار في كل القارات للضغط على الحكام المتخاذلين، خصوصا في دول الطوق،  ولتعبئة الجماهير في كل مكان ضد الصهيونية وحلفائها، حتى يَفهم ترامب وغيره بأن الكيان الصهيونى صار عبئا على العالم يجب التخلص منه.