تركيا: محاولة الانقلاب ضد الفكرة والمشروع والنموذج (2)

حينما كتب فرانسيس فوكوياما كتابه ” نهاية التاريخ والإنسان الأخير” سنة 1992 خطّأه كثير من الكتاب والمفكرين من مختلف الحضارات والثقافات واعتقدوا بأن عكس ادعائه يحصل في العالم الجديد بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، وأن الزمن زمن بروز الثقافات المتنوعة في العالم وظهور قوى دولية جديدة والتخلص نهائيا من الأحادية القطبية الأمريكية. كثير من هذا حصل حيث ظهرت قوة الصين وباقي دول البريكس في المجال الاقتصادي وأصبحت هناك قوى اقليمية تلعب دورا أساسيا في العلاقات الدولية وأصبحنا نرى العالم بألوان الطيف من حيث التنوع الثقافي. غير أني لا أعتقد بأن هذا الذي كان يهم فوكوياما حين تحدث عن نهاية التاريخ، الذي كان يهمه هو المجال الفكري ومرجعية القيم في الكون، اعتقد فوكوياما بأن نهاية الاتحاد السوفياتي هي الانتصار الأبدي للرأسمالية الغربية المادية الربوية ومذهبها الليبيرالي وبذلك يتنهي صراع المشاريع بالتسليم التام بأن نموذج إدارة الاقتصاد والأسواق هو النظام الرأسمالي دون غيره وأن الليبيرالية ستنتصر أبديا على مستوى المبادئ والأفكار وتصبح معولمة بل تكون منهج حياة البشرية كلها. وعليه، كما نراه الآن في كل مكان، يصبح الذي يتحكم في الحكومات رجال المال والأعمال والمؤسسات الاقتصادية العابرة للقارات ويصبح الحكام خاضعين لإرادة واحدة هي إرادة السوق ومن يتحكم فيه، هي التي توصلهم للحكم وهي التي تسقطهم. وحين يكون الأمر كذلك يتأكد فعليا إمكانية وجود “حكومة عالمية خفية” تسخّر المؤسسات الدولية والحكومات الوطنية لإرادتها من حيث درت تلك المؤسسات والحكومات أم لم تدر بالرضا أو كرها، وحين يكون الأمر كذلك تفعل أصابع المنظمات الخفية المرتبطة بالصهيونية فعلها كالماسونية واللوبيات المالية والإعلامية وغيرها من المنظمات السرية الشبيهة ومنها منظمة فتح الله غولن المتهمة بالارتباط بالماسونية والمتصلة اتصالا وثيقا بالأجهزة الأمنية الأمريكية، ويصبح عندئذ التمرد على هذه المنظومة العالمية عسيرا جدا يشبه المستحيل أحيانا. قد يُسمح لمن يريد أن يتميز عن هذه المنظومة أن يكون هامشيا يُستفاد منه في تزيين المشهد العالمي، فإذا أراد أن يكون مشروعا عالميا بديلا تتم محاولة استيعابه ليكون مكملا للمشروع الرأسمالي العالمي بقيمه الغربية المهيمنة، فإن أصر على التميز بمرجعية أخرى يُضرب بيد من حديد، بكل الوسائل الممكنة، بالفوضى أو الأزمات أو الحصار أو الانقلابات أو الاغتيال أو شيء من هذا.

إننا حين نتابع اقتصاديات العالم كله في كل الدول بمختلف ثقافاتها وحضاراتها ونظم حكمها سنجدها كلها تمثل نمطا واحدا هو الاقتصاد الرأسمالي الربوي، ذلك هو اقتصاد الصين ضمن نظام الحزب الواحد، وذلك هو اقتصاد الروس ضمن النظام المافيوي المسيطر، وذلك هو اقتصاد دول البريكس، وذلك هو اقتصاد الدول الإسلامية الصاعدة كماليزيا واندنوسيا وتركيا، كلها اقتصاديات تشبه الإقتصاد الرأسمالي الغربي الأمريكي الأوربي، إنها نهاية التاريخ حقا إذا استمر الأمر هكذا، كل هذه الأنظمة تخضع لمذهب واحد هو المذهب الرأسمالي المادي الربوي وهي كلها أنظمة مخترقة بدرجات متفاوتة من الصهيونية العالمية.

إلى جانب كتاب فرنسيس فوكوياما ظهر كتاب آخر ذائع الصيت هو كتاب ” صدام الحضارات وإعادة تشكيل النظام العالمي” لصاحبه صمويل هنتنتن، والكتاب في أصله مقالة كتبها المؤلف في مجلة “فورين آفيرز” الأمريكية سنة 1993 يرد فيها على تلميذه فرنسيس فوكوياما مؤكدا بأن الحضارة الغربية لم تنتصر بعد وأنها ستواجه صراعات جديدة ليس مع الدول ولكن مع الحضارات الأخرى، ويمثل الكتاب،في حقيقة الأمر، خطة متكاملة لأصحاب القرار الغربيين لمواصلة سيطرة الحضارة الغربية على باقي الحضارات الأخرى، أي لتتحقق “نبوة” تلميذه ذاتها ! وكأنه يقول له “لا تجعلنا نسترخي بنشوة الانتصار فنُغلب، إن علينا مهمات جديدة ليس ضد الدول بحد ذاتها ولكن ضد حضاراتها وقيمها وهويتها”. يحصي صمويل هنتنتن في هذا الكتاب الحضارات الموجودة في العالم ويخلُص إلى أن ثمة حضارتين منافستين للحضارة الغربية هما الحضارة الكنفوشيوسية الممثلة في الصين والحضارة الإسلامية الممثلة بدول الشرق الأوسط وما يتصل به وهي أخطر الحضارات كلها على الغرب حسب هنتنتن، وأن المواجهة الأساسية هي بين ” العالم المسيحي” بقيمه العلمانية من جهة و”العالم الإسلامي” من جهة أخرى. لا أريد أن أفصل في فحوى هذا الكتاب فليس هذا موضوعنا، وقد نشرت بشأنه كتابا منذ سنوات عنوانه: ” صدام الحضارات: محاولة للفهم”، ولكن الذي أريد أن أنبه إليه أن الخطة المعروضة في الكتاب قد أتت ثمارها بالنسبة للصين إلى حد كبير، حيث أصبحت الصين تمثل اقتصادا متكاملا مع الاقتصاد الأمريكي وفي أسوء الحالات قد تهدد المصالح الأمريكية والأوربية ولكنها لا تهدد الحضارة والثقافية الغربية على الإطلاق، بل قد أصبحت مندمجة فيها اندماجا كبيرا أصبح يقلق أصلاء الكونفوشيوسية  ولا يجيدون لحيرتهم حلا، وفي أسوء حالٍ من هذا قد تتضرر أمريكا ضررا كبيرا من صعود الصين ولكن الصهيونية لن تتأثر وجوديا بذلك، ذلك أنها وجهت اهتمامها للصين منذ سنوات طويلة وقد اخترقت الاقتصاد الصيني اختراقا كبيرا من خلال هيمنة الفكرة الرأسمالية الربوية ونفوذ رجال الأعمال الصهاينة أو المتصهينين، وهي في راحة تامة من أمرها في هذا الشأن.

إن المشكل الذي تجده “حكومة العالم الخفية” هو مع العدو الأول حسب تصنيف كتاب صدام الحضارات، مشكلتهم الكبيرة هي مع الإسلام المستعصي عن الاستيعاب والإدماج، بل المقاوم الأوحد في الكون لظلم الفكرة الرأسمالية المادية الربوية كما يقر بذلك عدد من القامات الفكرية في الغرب ذاته، بل الإسلام هو القوة الوحيدة التي تعرض بديلا حضاريا معارضا معارضة كلية للهيمنة الاستعمارية الرأسمالية. وخطر الإسلام بالنسبة للنظام العالمي المهيمن ليس في تطبيق الشريعة الإسلامية المظهرية، لا تمثل هذه المسألة شيئا بالنسبة لهم إذا كانت الحكومات والمنظمات التي ترفع شعار تطبيق الشريعة الإسلامية قابلة للاندماج والتبعية الأبدية للسيادة الغربية الرأسمالية الربوية المادية، ثمة دول ومنظمات لا أوضح منها في تطبيق الحدود مثلا، دعوة أوفعلا، ولكنها متحالفة وصديقة لأمريكا وأوربا بل بعضها قريب جدا من دولة إسرائيل ذاتها. كما لا يهم أمريكا وحلفاؤها أن تتمسك بعض المنظمات والدول بالإسلام خارج السيادة والقيم الغربية إذا كانت هذه الدول والمنظمات ضعيفة وهزيلة، بل قد تكون هذه الدول والمنظمات مفيدة لاستمرار الهيمنة الغربية من خلال استعمالها والتخويف بها.

إن الذي يخيف أمريكا هو المشروع الإسلامي البديل التحرري الذي يقاوم الظلم العالمي ويرفض الهيمنة الغربية ويكافح الصهيونية ويكون في نفس الوقت قويا متطورا متحضرا قادرا على الاستقلال عن الإرادة الغربية باقتصاد قوي ومؤسسات حكومية صلبة وشعب فاعل ومتحضر، ولا يهم أن يكون هذا المشروع في صورته النهائية الكاملة أو يكون في طور التحرر من الواقع العالمي المهيمن. لهذا السبب يُضرب اليوم د. محمد مهاتير من خلال دعم أمريكا وإسرائيل لخصومه في المؤسسات الحكومية لكي لا يبقى له أي نفوذ في الدولة الماليزية بالرغم من أنه هو صانع نهضتها وقوتها، يضرب مهاتير اليوم بلا هوادة لأنه يجوب ماليزيا والعالم بأسره يحذر من مخاطر الربا والهيمنة الغربية ومن مخاطر الكيان الصهيوني وسطوته. ولهذا السبب يحارب أردوغان ولهذا السبب كان الانقلاب الفاشل، إنه انقلاب ضد فكرة يحملها طيب رجب أردوغان وإخوانه تعلّموها في شبابهم في الكتاتيب ومعاهد الأئمة والدعاة ومع أستاذهم المفكر الكبير نجم الدين أربكان رحمه الله، أجلوا التعبير عنها ضمن خطة محكمة ومشروع متكامل، وتعاملوا مع الواقع كما هو بنيّة تغييره بالتدرج على سنة المصطفى عليه الصلاة والسلام والمجددين في كل زمان، ولكن وهم في أعلى مستويات نجاحاتهمفي مجال التنمية والاقتصاد وصناعة القوة والتحضر اضطرتهم الأحداث أن يعلنوا عن وقوفهم مع الحق بلا تردد ولا هوادة، قولا وعملا،  في قضية فلسطين أساسا وفي قضايا الأقليات والشعوب المسلمة المضطهدة والتي تمر بمراحل صعبة كمنيمار والصومال  وغيرهما، ثم في قضية تحرر الشعوب على إثر ثورات العرب ضد الظلم والتخلف والاستبداد فأصبحوا مصدر الإلهام واتجهت إليهم مشاعر الحب والتقدير لدى الشعوب العربية والإسلامية التي عبرت عن ذلك أحسن تعبير على إثر الانقلاب الفاشل. لقدبدأ هؤلاء الأتراك المتميزون يتحولون فعلا إلى نموذج ماثل ناجح تقيص عليه شعوب العالم العربي والإسلامي لتنتشر العدوى فيتحول المشروع التركي إلى مشروع عالمي بديل، ولربما تتالحف معه حضارات أخرى مستضعفة غير إسلامية في أفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية فيتحول العالم كله إلى واقع غير الواقع الذي تحبه الرأسمالية المادية الربوية. ولعمري هذا أمر لا يمكن أن تقبله حكومة العالم الخفية وروحها المتصهينة. هذا الذي كتبه هنتنن وهو يتحدث عن الإسلام، وهذا الذي يُطبّق أمام أعيننا، كتب بشكل واضح بأن السمة الأبرز في ضعف الأمة التي تنتمي للحضارة الإسلامية حاليا هو غياب الدولة النموذج التي تمثل أو تتجه إلى تمثيل الفكرة الإسلامية الحضارية التحررية، وهذا هو الضعف الذي يجب أن يستمر…. يتبع…