تمر الجزائر بتحولات سياسية واقتصادية واجتماعية حساسة تنذر بإمكانية وقوع تغير مهم في المشهد السياسي والخارطة الحزبية الجزائريةّ على مدى متوسط، فحالة التذمر المتصاعدة على الجبهة الاجتماعية التي لا تتناسب مع الوفرة المالية الحالية، واستحالة بروز تنافس حزبي جاد على البرامج والأفكار بما يوفر الفرصة للتداول على الحكم، وانتقال التدافع السياسي كله إلى داخل سرايا الحكم وأجنحة النظام القائم، وتعاظم حجم الفساد المالي في البلد وتورط مؤسسات كبيرة في الدولة فيه، والمساس بمقدسات وملفات حساسة لدى المواطن الجزائري كقضية الحجاب واللحية وقبلها الإعدام، تدل كلها على وجود فراغ مهول في الساحة السياسية وتنبئ عن غياب لافت للرشد في إدارة شؤون البلد.
إن النتيجة الحتمية لمثل هذه الأوضاع في أي بلد كان في الدنيا هو انتفاضة الجماهير بطريقة ما حسب ما يُتاح من الظروف والإمكانيات لتغيير الأوضاع القائمة، ولسنا في هذا المقام بصدد دراسة أنواع الاحتجاجات الممكن انتهاجها من قبل المواطنين للتعبير عن رفضهم للوضع القائم، ونكتفي بالقول بأن الحد الأدنى المتوَقّع هو التصرف الاعتيادي المتمثل في عزوف اليائسين من التغيير بواسطة العمل السياسي عن المشاركة في انتخابات 2012 واتجاه الراضين بالواقع لانتخاب ممثلي الأحزاب التي ترمز لنظام الحكم. ولا شك أن الخاسر الأكبر حيال هذه الحالة هي حركة مجتمع السلم التي وَجدت نفسها في المواعيد الانتخابية السابقة تتنافس مع أحزاب المعارضة على المرتبة الثالثة فتأخذها منها حركة الإصلاح في انتخابات 2002 وتخطفها منها الجبهة الوطنية في استحقاقات 2007.
إن هذا الحال الذي تجد حركة مجتمع السلم نفسها فيه لا يليق بحركة سياسية طموحة تأسست لإصلاح أوضاع البلد وترقيته ليكون في المستوى الذي يليق به بين الأمم، ناميا وراقيا وقويا ومتحضرا وسيدا ضمن إطار المبادئ الإسلامية، من خلال برنامج سياسي خاص بها تعتقد بأنه الأفضل بين البرامج. قد تقبل أي حركة وطنية أن تتنازل عن المقام الذي ترى نفسها أهلا له في ظروف استثنائية تتطلب التضحية وفداء الوطن كما وقع للحركة طيلة فترة التسعينيات حيث سُرقت منها رئاسة الجمهورية في انتخابات 1995 وزُور عليها في مرات انتخابية عديدة وقبلت ذلك دون حرج حفاظا على المصلحة العامة. ولكن أن يتحول هذا الوضع إلى حالة دائمة تتربى عليها الأجيال وترسخ في الأذهان، يشب عليها الولدان ويشيب عليها الشبان، فهذا أمر غير مقبول عند أصحاب المروءات والعزائم الكبار. خصوصا وأن البلد قد تغير حاله ولم تصبح المخاطر التي هددته البارحة كالمخاطر التي تتهدده اليوم فلا خطر اليوم على مؤسسات الدولة واستقرار البلد من الإرهاب والمؤامرات الداخلية والخارجية، بل الخطر اليوم هو من داخل مؤسسات الدولة بسبب الفساد وقلة الرشد في إدارة شؤون البلاد.
من البديهي أن المواطنين حينما يريدون معاقبة نظام الحكم يعاقبون انتخابيا الأحزاب التي ترمز له، ولكن الغريب في الأمر في الجزائر أن الطرف الوحيد التي يتضرر من هذه الظاهرة ضمن أحزاب التحالف هو حركة مجتمع السلم فهي وحدها التي تراجعت تراجعا مذلا في الانتخابات التشريعية 2002 وحتى حينما تقدمت من جديد في الانتخابات التشريعية 2007 لم يؤهلها ذلك للمكانة التي كانت عليها في رئاسيات 1995 وتشريعيات 1997، ولا تدل المعطيات السياسية الراهنة بأنها ستحقق وثبة كبيرة في تشريعيات 2012 إذا بقي الحال على ما هو عليه. والسبب في ذلك معروف لدى الجميع إذ أن نظام الحكم هو من يضمن سلامة الأحزاب التي يتبناها، ولا يجهل أحد أن هذا الأخير لا يتبنى من ضمن أحزاب التحالف الثلاثة إلا حزبين هما جبهة التحرير الوطني والتجمع الوطني الديموقراطي، ومظاهر تبني هاذين الحزبين ظاهرة للعيان من خلال قاعدة ثابتة على مر الزمان: ” الرعاية التامة أثناء المواسم الانتخابية والتمكين الدائم في مختلف المؤسسات الحكومية وغير الحكومية في سائر الأيام”.
لا يليق بحركة مجتمع السلم التي تملك ـ رغم كل ما يقال ـ من عناصر القوة ما يؤلها لأداء أدوار طلائعية في البلد أن ترضى بدور “المثقال الذهبي” الذي تُعدل به كفة الميزان في لعبة سياسية أبدية يديرها غيرها، خصوصا أن هذه اللعبة لم تعد واضحة اليوم ولا يظهر منها أنها تدار لمصلحة الوطن وفائدة المواطنين. إن حركةً أُسست بإرادة مؤسسيها ومناضليها لأداء رسالة نبيلة اقتنع بها أتباعها، وتملك قوة تنبع من ذاتها، وتزخر بتجربة متنوعة وطويلة فريدة من نوعها، وتنتشر في كل أنحاء الوطن هياكلُها، وتتمتع بعلاقات محلية ودولية متشابكةٌ أطرافٌها، وتتميز عن غيرها بمستويات علمية ووفرة شبابية ونسوية يحسده عليه غيرها من حقها أن تطمح للرِّيادة في بلدها، أو على الأقل أن تنافس على المراتب الأولى في الساحة السياسية وإدارة الشأن العام بشكل يشرف تاريخها ويرفع أجرها وقدرها.
لا أريد في هذا المقام أن أقترح لتحقيق هذا ما يدعو إلى تغيير المألوف من المسالك السياسية، إذ العادةُ مستحكمةٌ يصعب على هذا المقال فلّها، ولا هذا المكان مكان النقاش في الخيارات والاستراتيجيات، ولكن الذي يجب القيام به على العاجل هو أمر لا يختلف عليه إثنان ولا يتناطح بشأنه عنزان: إنه الانفتاح…الانفتاح هو الحل… الانفتاح أو الردى والعياذ بالله. إنه السبيل الوحيد لتجاوز عُقد العمل السياسي، وأزمات الديموقراطية، وسياسات التأييس من الإصلاح بواسطة الفعل الانتخابي، وتحمل أعباء طول الطريق وصعوبة الوصول.
لا يمكن معالجة هذه التحديات التي يقرها القاصي والداني سوى بضخ دماء جديدة في رحاب الحركة وربوعها، لا بد من تحميل أعداد كبيرة من الناس أجزاء من الأعباء التي نحملها، لا بد أن يكون أكثر ما تقوم به الحركة من الأعمال والأنشطة موجه للفعل الخارجي نحو كافة الناس وكل الشرائح، لا بد أن تتحول هياكل الحركة ومؤسساتها إلى دوائر مفتوحة للجمهور يصل إليها كل مواطن دون تعقيد، يجد فيها بغيته النضالية ويعبر من خلالها عن طموحاته وآماله، يحلم من خلالها بتغيير أوضاعه وأوضاع مواطنيه نحو الأفضل والأحسن، يكفي للانخراط فيها أن يقتنع بفكرتها ويناصر مبادئها ويتعاون مع من فيها على تنفيذ مشاريعها والتمكين لبرامجها.
إن الحديث عن الانفتاح قديم قدم الحركة ولكن الامتثال به لا يتم إلا بانفتاح العقول أولا، ثم بالتمثل العام والتام بقيم الانفتاح حتى تسود في كل الأذهان وكل المستويات التنظيمية وكل الجهات وكل الولايات وكل البلديات وكل الأحياء. ومن أبرز هذه القيم قيمة التبليغ والشهادة على الناس، وعدم الرضا بالواقع والتشوق لمستقبل أفضل، والشعور بالخطورة في حالة عدم الاستدراك، والشجاعة على تحمل مسؤولية القرارات الصعبة، وحب التجديد والإبداع، والخروج من حالة تقديس الماضي بكل ما فيه، والتواضع، والاستعداد لمخالطة الناس و الاستماع إليهم وخدمتهم، وإيثار العمل الميداني، والابتعاد عما ينفر الناس ويبعدهم، كالشبهات والغموض والانغماس في الهموم التنظيمية والمصالح الخاصة والتبعية لقوى أخرى خارجية أو داخلية أو غير ذلك.
إن السير الجاد في خطط الانفتاح بخطوات رصينة ومدروسة من شأنه أن يخلق حيوية كبيرة في مختلف هياكل ومؤسسات الحركة، ويشغل المناضلين بشكل أمثل وأنفع، ويفتح آفاقا جديدة تجعل المناضلين يشعرون بالأمان والثقة والقوة، فيزداد عطاؤهم، وتكثر مبادراتهم، ويتشجع المتعاطفون غير العاملين الذين لم تستوعبهم أطرنا التنظيمية فيأخذون المبادرة ويتحولون إلى عناصر فاعلة، كما أن تيارات كثيرة تشبهنا ولا تنتخب علينا كالمتدينين والمحافظين والطبقات الاجتماعية المستقرة ستجد ضالتها في أوعيتنا وتشعر بالاقتراب التلقائي منا، فيؤدي ذلك كله إلى محو قدر كبير من التهديدات التي تحيط بالحركة، كمحاولات التشويه المغرضة وتضخيم الأخطاء والعيوب وإغفال الإنجازات الظاهرة للعيان ومخططات التقويض من الداخل وسياسيات التقزيم والتأطير والتدجين، كما أنه سيجعل الحركة أقدر على الاستفادة من الفرص الكثيرة المحيطة بها، سيجعلها أقدر على الاستفادة من هوامش الحرية المتاحة، و على ملء قدر كبير من الفراغ السياسي الملحوظ، وتوجيه حالات التذمر الاجتماعي توجيها أمثل وأصلح، و تشغيل الطاقات الشبانية الوافدة حديثا على الساحة السياسية والاجتماعية بما يجعل الحركة فرصة لهم للتأهل الفكري والنفسي والسياسي والتربوي والدعوي وبما يجعلهم فرصة للحركة والوطن وقضايا الأمة المختلفة.
مما لا يجب إغفاله حينما نعزم على السير في مشاريع الانفتاح الاستعداد لمواجهة السلبيات التي تصاحبها والمخاطر التي تكتنفها كاحتمالات الاختراق وفقدان السمت العام وضياع التوازن والاستقرار وغير ذلك مما يُظن ويُقال، وأول الاستعداد هو قبول احتمال وقوع هذه السلبيات والمخاطر كحالةٍ مصاحبةٍ لأي مشروع، إذ أن الله العلي القدير قضى أن يخص بالكمال ذاته وبالعصمة أنبياءه، فلا يوجد مشروع مهما كان أمره إلا وله وجه شاحب مخيف، ولكن لا بد أن ينهض لهذه السلبيات قادة ورواد يقتنعون بضخامة جدوى المشروع الذي يقررون السير فيه فتتسع آفاق فكرهم لإيجاد الحلول والعلاجات والبدائل والمبادرات التي تخنق السلبيات وتجعل تأثيراتها هامشية لا يكون لها أثر ذو شأن بحول الله.
إن الحديث عن الانفتاح لا يجب أن يكون فاكهة فكرية تُشغل بها جلسات الترف الذهني ولا ظاهرة صوتية للتنفيس عن المكبوت والتعبير عن حالات العجز الممقوت، إن فكرة الانفتاح لا يكون لها جدوى ولا تكون حلا لحركة مجتمع السلم إن لم تتحول إلى رسالة يقتنع بها كل من في التنظيم، ورؤية يتجه لها كل المناضلين وأهداف ومشاريع محبوكة حبكة حكيمة تأخذ بعين الاعتبار تعظيم النفع المرتقب وتهميش الضرر المتوقع، وأول دروب هذه المشاريع درب الفكر وإشغال الذهن لإعداد الهيكل التنظيمي إعدادا لائحيا جديدا يناسب هذا الطموح ويسمح بتحقيق هذه الآمال، ثم درب السياسة لتحويل الحركة إلى حركة عصرية نظيفة طموحة حاضرة في كل لحظة في ذهن الجمهور والنخب والسلط يهابها المعتدي ويفرح بها المهتدي، تحمل انشغالات المواطنين بصدق وتحول المبادئ والمثل إلى برامج وقوانين ومشاريع، ثم حل مشكل القصور الدعوي لكي يكون الجهد على درب الدعوة عاما وشاملا ودائما وآمنا فيتحقق في المجتمع معنى التدين الصحيح الذي يخدم البلاد والعباد ويضمن صناعة التيارات السياسية والاجتماعية العريضة التي تحفظ هوية البلد وتحميه من تدليس الساسة المستلبين ثقافيا وحضاريا، ثم إتقان التدبير والتسيير على درب المجتمع المدني الذي يتيح الفرصة لقطاعات عريضة من المواطنين من كل الشرائح والآفاق الشبابية والنسوية والعمالية والمهنية والفنية والرياضية والإبداعية ليشاركوا من خلال الحركة في تنمية بلدهم اقتصاديا وترقيته اجتماعيا وتنويره ثقافيا، ولكي يصير هذا المواطن واعيا بحقوقه قادرا على الدفاع عنها بروية وصرامة وبصيرة، وأثناء ذلك كله بذل الجهد الكافي على درب الاتصال لنقل خطاب الحركة وسياساتها وإنجازاتها لكل عقل جزائري بشكل مهني متقن، مع الثقة التامة بأن لا قوة رقابية تسلطية بشرية صارت تقدر على منع هذا العمل، ولا ثروة مالية صعبة الإدراك تُشترط لتحقيق هذا الأمل بعد الحد الأسطوري الذي وصل إليه تطور وسائل الاتصال الحديثة التي صِرتَ ترى كأنها حققت ما كان يصبو إليه رسول الله صلى الله وسلم حينما طلب من زعماء قريش أن لا يكونوا حاجزا بينه وبين الناس إذ قال: ” خلوا بيني وبين الناس”…. فهل من حجة بعد هذا البيان لأحد أن لا يعمل (( وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون
د.عبد الرزاق مقري