ميراث الشيخ محفوظ ورهان التجديد؟

كتبت هذا المقال بمناسبة التجمع الذي نظمته الحركة يوم 06 جوان بالبليدة ضمن فعاليات ذكرى وفاة الشيخ محفوظ رحمه الله وحينما رأيت الحشد الكبير أدركت بأن المناسبة لا تتناسب مع موضوع فكري فغيرت الخطاب إلى أسلوب تعبوي يليق بالتجمع.

حينما ينتقل المؤسسون والقادة الكبار إلى الرفيق الأعلى يكثر الحديث باسمهم والاستشهاد بأقوالهم واستصحاب آرائهم. وهو أمر طبيعي وعادي لأن المتميزين يتركون إرثا كبيرا يغرف منه الناس لاحتياجهم له، وكثيرا ما تكون أفكار هؤلاء المؤسسين أطول عمرا، بل ثمة من تصبح أفكارهم أشهر منهم. غير أن ثمة أتباعا يسيئون للمؤسسين ويعملون على قطع استمرار الأجر الجاري الذي يلحقهم في الدار الأخرى من حيث يدرون أم لا يدرون، ومن هؤلاء المفرطون في التقليد، المتمسكون بظواهر الأفكار ومنطوقها دون الالتفات إلى مقاصدها وأسباب بروزها، ومن هؤلاء المنتقون للأفكار التي تخدم وضعهم المريح دون الاهتمام بما من أجله كان المؤسسون يعيشون ويكافحون، ومن هؤلاء المتأولون الذين يقتنعون بفكرة تخصهم ثم يذهبون لتبريرها بتأويل أقوال المؤسسين، ومن هؤلاء المدلسون في الأسانيد ليوهموا استماع ما لم يسمعوه من المؤسسين، ومن هؤلاء المبالغون في النقل عن المؤسسين للإيهام برفقة لم ينالوها من المؤسسين، من هؤلاء الوضاعون الذين يختلقون أحاديث وهمية ينشئها خيالهم الهائم في متاهات النفعية والذاتية.

ولو قدر لمؤسس أن يختار من يتحدث عنه بعد وفاته لاختار مثل أبي يوسف لأبي حنيفة النعمان الذي نقد علم أستاذه وفرعه وأصله، أو عبد الرحمن بن القاسم لمالك الذي عضد وقوم وسدد علم شيخه، أو أبو بكر الخلال بن محمد بن هارون لأحمد بن حنبل الذي قال عنه الخطيب البغدادي: ” جمع الخلال علم أحمد وتطلبها وصنفها كما لم يفعل أحد من قبل”، أو إسماعيل أبو إبراهيم المزني للشافعي الذي قال عنه هذا الأخير ” المزني ناصر مذهبي”. ولو سألنا كيف انتشرت مذاهب مالك وأبي حنيفة وأحمد بن حنبل والشافعي ولم تنتشر مذاهب عظيمة كمذهب الأوزاعي أو سفيان الثوري أو سفيان بن عيينة أو الأعمش أو الليث بن سعد، علاوة على مذاهب صحابة كبار كمذهب عائشة ومذهب عبد الله بن مسعود ومذهب عبد الله بن عمر اندثرت كلها، رغم أن جل مؤسسيها هم أعلم من الأربعة وبعضهم شيوخهم  لعلمنا بأن مرد ذلك توفر تلاميذ أفذاذ لمؤسسي المذاهب الأربعة لم  يقفوا عند حد التقليد بل ذهبوا بعيدا في الاجتهاد حتى صارت أقوالهم في كثير من المسائل أشهر من أقوال شيوخهم، جعلوا مذاهب شيوخهم تنتشر وتتلقاها الأمة بالقبول فصارت مذاهب رسمية في بعض الدول الإسلامية الكبرى.

لا يجادل أحد بأن الشيخ محفوظ مؤسس لحركة وفكر واتجاه، وأن المجال الأكبر الذي برع فيه هو المجال السياسي، وأن سياسته طبعها سمت الاعتدال والبحث عن المساحات المشتركة بين الفاعلين والمؤثرين في الشأن السياسي سواء وهو يعارض النظام السياسي أم أثناء مشاركته. كما أنه لا يختلف إثنان بأن اتجاهه أثار كثيرا من النقاش والجدال بين مؤيد ومعارض، بين معجب إلى حد التقديس ومعارض إلى حد التخوين، ومعتدل ينتقي الأحسن ويبني عليه، وهذا هو شأن الكبار، يأتون بأشياء استثنائية تحرك الماء الراكد وتغير المألوف فيكون البون شاسعا بين الناس في الحكم عليهم. غير أنه لا بد من اعتبار الظروف والبيئة والمحيط في الحكم على فكر الشيخ، حينما كان مجال العمل السياسي مغلقا إغلاقا تاما عارض رحمه النظام السياسي بشدة وصلت إلى حد المواجهة المادية ودخل بسبب ذلك السجن. وحينما انفتح المجال السياسي توجس منه في البداية وشكك فيه فتأخر في أخذ المبادرة ثم أصبحت كل الاستراتيجيات استدراكات من أجل المحافظة على استقرار بلد ووجود حركة واستمرار مشروع. لقد كانت إدانة الحركة لإلغاء الانتخابات التشريعية سنة 1992 صارمة ثم أصبحت الأولوية بعد ذلك متجهة حصريا للمصالحة والبحث عن فرص الحوار. أطلقت الحركة مشاريع حوارية عديدة مع مختلف الأحزاب السياسية الإسلامية والعلمانية والوطنية وشاركت في مشاريع عديدة ( مجموعة 7، مجموعة 7+1، التحالف الوطني الإسلامي، التحالف الإسلامي الجمهوري، الإئتلاف الوطني، التحالف الرئاسي….)، غير أن كل تلك المحاولات لم تكن مجدية في إخراج البلد من كل أزماته بالرغم من أنها ساهمت في بعض المعالجات وكرست تجربة ومسارا، كما أن المشاريع الحوارية التي أطلقها طرفا الصراع ( السلطة والجبهات الثلاث ومن معها) لم تكن نافعة سواء تلك التي عرضتها المعارضة في مشروع ” العقد الوطني” في سانت إيجيديو أو التي فرضتها السلطة في ” ندوة الحوار الوطني” في قصر الأمم. حضر الشيخ محفوظ نحناح في بداية جلسات ” العقد الوطني” ثم انسحب وحضر في ندوة “الوفاق الوطني ” وانسحب قبل انطلاق الأشغال. وتجدر الإشارة هنا بأنه حينما رفض الشيخ محفوظ المشاركة في هاذين المشروعين لم يكن ذلك تراجعا عن التزامه بقيمة الحوار، لقد رأى بأن هاذين المشروعين تنقصهما الإرادة السياسية لتجسيد تلك القيمة وأن نتيجتهما لن تكونا كافيتين لحل الأزمة. وفي ظل هذه الصعوبة في تحقيق معنى المصالحة الوطنية وبظهور أمارات التفكك في الدولة والمجتمع أصبحت الأولوية، بعد ثلاث سنوات من إلغاء الانتخابات،  لبناء المؤسسات والعودة للمسار الانتخابي فشارك الشيخ محفوظ في الانتخابات الرئاسية سنة 1995 ثم في كل المسار الانتخابي وأتيح هامش كبير للحريات كان من أفضل ما هو موجود في العالم العربي آنذاك. حاول الشيخ أن يشجع السلطات على هذا المسعى وأن يساهم في إنجاح هذه المحاولة للانتقال الديمقراطي فاختار القرب من الحكم بمشاركته في الحكومة وتحققت كثير من الإيجابيات ليس المجال للحديث عنها. ولكن هذه المشاركة لم تكن دينا منزلا من السماء إذ لم يمنعه ذلك من مخاطبة السلطات بشدة كبيرة في كثير من الأحوال، وكانت أول خيبة الأمل في مسار المشاركة  الولادة القيصرية للتجمع الوطني الديمقراطي والتزوير الشامل لصالحة في الانتخابات التشريعية والمحلية سنة 1997 إذ فهمها الشيخ بأنها رسالة له ولجبهة التحرير  الوطني (بعد رجوعها من تجربة المعارضة) بأن السلطة لن تقبل أية مشاركة حقيقية وأن بديلها تصنعه بيدها وأن الجميع عليه أن يكون تابعا لا شريكا، وأن هوامش الحرية التي تمنحها مما بقي من مكاسب أحداث 5 أكتوبر هو لصالحها وحدها بقصد تزيين المشهد وكسب تأييد الخارج والاستمرار في الحكم إلى الأبد. ولهذا الاعتبار صمم الشيخ أن يطير بجناحيه فرفض الضغوطات التي مورست عليه لكي لا يترشح في الانتخابات الرئاسية سنة 1999 وأراد أن يكون الفيصل بينه وبين هؤلاء المتسلطين الإرادة الشعبية الحرة لكي يعلموا مدى حضوره الجماهيري… وليزوروا بعد ذلك تلك الانتخابات إن شاؤوا. غير أن المفاجأة التي لم تكن في حسبان الشيخ محفوظ نحناح هو حجم الوقاحة وقلة الحياء ومستوى التجبر الذي ظهرت به السلطات بمنعه من الترشح والطعن في تاريخه وتشويه سمعته. بعد هذا العمل الشنيع تصور الشيخ بأن هوامشه على المستوى القريب صارت ضيقة وأن عليه أن يرضخ ” باكيا” ليرى بعد ذلك ما عليه أن يفعل. لم يصبح الشيخ بعد هذه الحادثة هو نفس الشيخ قبلها. أصبح خطابه الداخلي يتسم بسخط لا حد له على من ظلمه، وأصبح يتهمهم بمستوى من الإجرام يصعب اليوم التعبير عنه، وأصبح خطابه الخارجي تحذيرا صارما من عواقب السياسات الفاسدة للسلطة. وقد ترك لنا في هذا الشأن محاضرة مصورة سنة 2000 يتحدث فيها عن الترهل الذي وصل إليه نظام الحكم رسم لنا فيها رؤية استشرافية كيف ستكون الجزائر بعد عشر سنوات إن لم يستدرك الأمر وطالبنا جميعا أن نتحمل مسؤولياتنا، ولكنه لم يستطع في السنوات الثلاثة التي بقيت له من عمره منذئذ أن يفعل شيئا في هذا الصدد، ولعل المرض العضال الذي أصابه والأزمة الكبيرة التي كانت تزحف داخل الحركة على مستوى المكتب ومحيط الشيخ محفوظ في ظل غيابه عن تسيير الحركة منعت من القيام بإصلاحات جادة، وبعدما توفي الشيخ رحمه الله فشلنا جميعا في التجديد وبقينا نتنافس في التقليد واستنساخ عمل السابقين، والتباهي بالوفاء لميراث الشيخ، ولم يظهر في هذا السبيل من نتائج جنتها الحركة سوى كسر المؤسسات العريقة التي بنيناها والتشتت المقيت لصفنا والصراع الدائم المهلك على القوائم الانتخابية والهوامش الحكومية والإدارية الضيقة التي كانت مواطن الانشقاق في أغلبها، والعجز والكسل والقبول بمسار التزوير والأمر الواقع ولو بقي دهرا، ولم نسأل أنفسنا أبدا هل كان الشيخ محفوظ سيبقى على مذهبه الذي انتهجه للمأساة الوطنية أم كان سيجدد لتستمر حركته ولتنمو وتكبر وتقوى حتى تساهم في نهضة الوطن وسأدده وتطوره. لا مناص من القول بأن لا صدق في الاتباع دون همة التجديد، من أحب الأولين حرص على استمرار ما بنوه، ولا استمرار لبناء دون تعهده وتجديده. فإذا كان الدين ذاته  يجدد كل مائة سنة على قول الرسول صلى الله عليه وسلم: “إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها” فكيف باجتهادات تتعلق بأزمة محددة.

قد يبتلى المؤسسون بأتباع يدرسون جهد سادتهم بالإمعان في التقليد أو بتحويل المكتسبات التي حققها السابقون إلى مصالح مبهمة ومكتسبات موهومة لا يجب أن يتغير فيها شيء فيقتلون مقاصد الاجتهاد في فترة التأسيس بغلق باب الاجتهاد بعدها وجعل تلك الفترة لحظة أبدية يتوقف عندها الزمن، لا شك أن هذه حالة لا يتمناها أي مؤسس توفاه الله، لأن الذي يتوفاه الله يكون في أمس الحاجة لأجر جار يلحقه باستمرار عمله عبر الأجيال.

إن التجديد الذي تقوم به الحركة في المجال السياسي وضعها في موقع الريادة و الفعل والتأثير في مدى قريب لم يتجاوز السنة لا قبل لأحد أن ينكره، وما نبذله من عمل على الخط الاستراتيجي نتوقع منه قوة ومكنة للحركة ومشروعها على المدى المتوسط والبعيد هو هدية نزفها للشيخ محفوظ نحناح في ذكراه الحادية عشر نسأل الله أن يتقبلها منا كاملة وأن يجعلها ثوابا واصلا له ولرفيقه الشيخ بوسليماني ولكل من كان له فيها دور وتأثير من شيوخنا وأساتذتنا ومعلمينا ورفقائنا، ولكل مناضل ومناضلة، ومحبة ومحبة، بذلوا لتحقيق النجاح ودعوا الله له بصدق لله تعالى لمصلحة الأمة والدين والوطن.