إن مصادقة المجلس التأسيسي في بلد الغنوشي على الوثيقة الدستورية التي صاغها التونسيون بالتوافق بينهم هي الصورة النموذجية لنجاح الانتقال الديمقراطي الذي جاءت به ثورات الربيع العربي. لقد بينت حالة الابتهاج العام داخل المجلس التأسيسي، والتصافح بل والتعانق بين المتشاحنين سياسيا وأيديولوجيا بأن قلب وروح وعقل الثورات العربية هو في تونس الخضراء. إنه النموذج الذي سيوقف، مع مرور الزمن، تغول وإجرام الثورة المضادة في مصر، ويصحح الانحرافات الثورية في ليبيا، ويكسر التآمر الطائفي والإقليمي والدولي في سوريا، ويمنع السرقة المنظمة للثورة في اليمن، ويثبت ويسدد الإصلاحات في المغرب. كما أن هذا النموذج هو الذي سيساعد على نقل رياح الإصلاح والتغيير الذي يريده الجزائريون في بلدهم، وهو الذي سيبتلع حبال السحر في الخليج، و يفضح المكر الخفي والدسيسة الحاقدة التي تُصنع هناك.
لقد كتبت في جريدة الشروق في مقال تحت عنوان : تونس بوصلة النهضة العربية القادمة” ضمن سلسلة: ” مقال المقام” في جريدة الشروق بعد الانتخابات البرلمانية التونسية في 23 أكتوبر 2011 ما يلي ” ليس مستغربا أن تبرز التوجهات السياسية الإسلامية كقوة أولى في أي انتخابات تكون حرة ونزيهة في الوطن العربي مثل ما حدث في تونس مع حركة النهضة في انتخابات المجلس التأسيسي. ولكن ليس هذا الذي يجعل تونس هي بوصلة النهضة العربية القادمة وقبلة الثوار الجديدة، إنما الذي يجعلها كذلك أنها نجحت في تحدي الانتخابات مهما كان الفائز فيها. ولا يظهر شيء يوحي بحدوث نكسة بعدها، كما حدث في الجزائر. فالحزب الفائز حزب كامل النضج مستقيم المنهج وسطي التوجه، وفي نفس الوقت غير مسلوب الإرادة وقادر على الدفاع عن مكتسباته، يُحسِن أن يكون في المعارضة كما يحسن أن يكون في السلطة. والأحزاب المنافسة مهما كان توجهها ليست استئصالية ولا تدعو لإلغاء الديمقراطية باسم الديمقراطية، وهي ليست وليدة السلطة ومخابر صنع القرار الخفية. والجيش ليس له أحزاب وكيانات سياسية يفضلها ويراهن عليها ويتمظهر بها”.
ولا زلت أقول أن التجربة التونسية ستكون هي النموذج لنجاح مسار التغيير في العالم العربي، وكنت شبهت تونس في مقال آخر بأن هذا البلد هو مخبر النهضة العربية. تماما مثلما هو حال المخابر التي يُجرَّب فيها الإبداع ويُجسد فيها الابتكارُ ويصممُ فيها النموذجُ التقريبيُ، فإذا ما نجحت التجربة في المخبر تُدفع للمصانع لكي تصبح منتجا صناعيا مطلوبا تتنافس عليه الأسواق.
اجتمع لتونس كثير من الأسباب تؤهلها لنجاح التحول الديموقراطي وبناء منظومة سياسية في العالم العربي عصرية ووفية لهويتها، فهي علاوة على أهلية الأحزاب والمجتمع المدني المتنافسة في داخلها لا تمثل دولة بأهمية مصر والجزائر، مثلا، لكي تخشى منها الدول الغربية فتعمل على التحكم في مستقبلها ومصيرها، وهي مجتمع قليل السكان ويحوز أهله على قدر جيد من الوعي والثقافة، وهي دولة لا وجود فيها لنظام عسكري قوي في دواليب الحكم لا يسمح بقيام تحولات لا يتحكم فيها.
إن عدم تدخل العسكر والأجهزة الأمنية هو الذي سمح للأحزاب أن تتحاور وتتوصل إلى ما وصلت إليه. غير أنه مهما تعددت أسباب هذا التحول الناجح لا يمكن أن نقر له بسبب أرقى مما قدمته حركة النهضة من حسن تدبير، وعلو تفكير، ودقة تقييم، وكفاءة اتصال، وبراعة تفاوض، ومن قوة في الحجة والتعبئة والتمسك بالحدود الدنيا التي لو وصل تنازلها إلى أدنى منها لما بقي للتوافق الذي حصل من معنى، ولما حمل معه حظوظا وفيرة للتماسك والنجاح في المستقبل. لقد فهمت حركة النهضة في تونس ما لم يفهمه غيرها من الإسلاميين في بلدان الربيع العربي. لقد فهمت حركة النهضة بأن المكسب الأعظم من الربيع العربي هو رياح الحرية التي جاء بها وليس ما كسبته من نجاحات انتخابية بعد سقوط الدكتاتورية. ومهما تكن نتيجة الانتخابات التشريعية التي ستقام في ظل هذا الدستور الجديد فستكون حركة النهضة هي الناجحة. لو فازت في الانتخابات، وهذا هو المرجح، ستكون أقدر على إدارة الشأن العام وعلى بناء تحالفات أوسع في ظل بيئة محلية ودولية مرحبة، ولو تراجعت ستكون القوة الأولى في المعارضة وسيمكنها ذلك من بناء نفسها بتركيزها على الخطوط الاستراتيجية الهادئة بعيدة المدى، ومعالجة الخطوط السياسية الساخنة العاجلة بأريحية تامة، مما يؤهلها للتمكين الحقيقي في انتخابات لاحقة ما بقيت الحرية قائمة.
لا تزال التجربة محفوفة بالمخاطر غير أن اجتياز عقبات بالحجم الذي عرفته تونس في السنتين الماضيتين يبشر بأن الطريق سالك، وأن قاصد الحقل مدركه، وأن القوم سيسعدون بالثمار، وأن للجيران نصيبا وافرا من الغلة.