إن معرفة الحق واتباعه من أعظم الطاعات والعبادات والشرط الأساسي للنجاح في الحياة الدنيا والنجاة يوم القيامة. يقول الله تعالى في محكم تنزيله في سورة البقرة ((فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ- 213))، وفي سورة يونس (( أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لَا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدَى – 35)) وقوله عز وجل في سورة البقرة (( وَلَا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُون-42)).
ومن أعظم ما يدل على أهمية معرفة الحق في حياة المؤمن أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يتضرع الى الله تعالى بأسمائه وصفاته لكي يدله عليه في أجلّ وأفضل أوقات استجابة الدعاء، إذ كان يستفتح قيامه الليل بهذا الدعاء الذي ورد في الحديث الصحيح الذي رواه مسلم عن عائشة -رضي الله عنها- حينما سئلت: بأيِّ شيءٍ كان نبيُّ الله ﷺ يفتتح صلاته إذا قام من الليل؟ قالت: كان إذا قام من الليل افتتح صلاتَه:اللَّهُمَّ رَبَّ جِبرائيلَ ومِيكائيلَ وإسرافيلَ، فاطِرَ السَّمواتِ والأرضِ، عالمَ الغيبِ والشَّهادةِ، أنتَ تحكُمُ بينَ عِبادِك فيما كانوا فيه يَختلِفونَ، اهْدِني لِمَا اختُلِفَ فيه مِن الحقِّ بإذنِكَ، إنَّك تَهْدي مَن تشاءُ إلى صِراطٍ مُستقيمٍ))
لقد كان النبي المجتبى يتوسل الى الله خاشعًا خاضعًا أن يريه الحق في ما اختلف فيه الناس وهو الذي رأى الغيب رأي العين، المعصوم المؤيد بالوحي وبحفظ الله وعونه وفق قول الله تعالى في سورة النجم: ((وَٱلنَّجۡمِ إِذَا هَوَىٰ (1) مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمۡ وَمَا غَوَىٰ (2) وَمَا يَنطِقُ عَنِ ٱلۡهَوَىٰٓ (3) إِنۡ هُوَ إِلَّا وَحۡيٞ يُوحَىٰ ( 4))
وإنما هذه السنة الفعلية توجيهٌ لنا، نحن المؤمنين العاديين، المبتلين بحتمية الاختلاف وفق قوله سبحانه في سورة هود: (( وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِين٠ إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ 118-119)) لكي لا نستصغر مسألة معرفة الحق واتباعه ونستخف بها، ولكي نجعل ذلك محورًا أساسيًا في حياتنا، نبذل قصارى جهدنا لتمحيص وجهات النظر وتبيين مختلف الآراء المختلف فيها، وتجلية ما خفي وما اكتنفه الغموض من القضايا التي تقابلنا في الحياة مما له أثر على ديننا ودنيانا، أفرادًا وجماعات، دون تحايل ولا تدليس ولا خِداع ولا كِبر ولا عجز ولا كسل، وبالتضرع إلى الله والتوجه إليه في الخلوات حيث تصفو وتصدق النفس ليرينا الحق حقًا ويرزقنا اتباعه، وبغير أن يقتصر انحيازنا إلى الحق حين يكون في صالحنا فقط كما ذكر الله تعالى في شأن المنافقين في سورة النور: (( وَإِن يَكُن لَّهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ (49) ))
لقد تأملت في النصوص الشرعية والأحكام والحِكم الهادية إلى سبل معرفة الحق، فوجدتها تتوزع على خمسة معالم هي:
- الإخلاص لله تعالى وتقواه
- العلم بالأمر والمعرفة بمختلف جوانبه.
- الخبرة فيه وطول التجربة بخصوصه
- الشورى بحكمها خلق لازم وإجراء فاعل وصادق
- الافتقار إلى الله في معرفة الحق والدعاء والتضرع إليه سبحانه.
أولاً – الإخلاص إلى الله تعالى وخشيته سبحانه وتقواه، إذ الحق نعمة نفيسة يَتيهُ فيها خلق كثير لا َتعرف إلا أبواب القلوب السليمة، التواقة حقا لمعرفة الحق، المحبة له المتعلقة به ولو كان في ذلك خسارة تصيب أصحابها، فقد قال الله تعالى في سورة البقرة: ((وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ 282- )) أي بخشيته تعالى تنقدح أنوار العلم والمعارف والحكمة، وكقوله سبحانه في سورة الأنفال: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَانًا))، أي يهبه ميزانًا يعرف به الأمور على أوزانها الحقيقية، ونورًا يفرّق به بين الحق والباطل والحقّ والصواب. وقد وقف محمد رشيد رضا عند هذه الآية في تفسيره “المنار” فقال: “جعل لكم بمقتضى هذه التقوى ملكة من العلم والحكمة تفرقون بها بين الحق والباطل ، وتفصلون بين الضار والنافع ، وتميّزون بين النّور والظّلمة ، وتزيلون بين الحجّة والشبهة . وقد روي عن بعض مفسري السلف تفسير الفرقان هنا بنور البصيرة الذي يفرّق بين الحق والباطل”
وفي السنة النبوية توجيهات كثيرة لما يمنحه تقوى الله من الحكمة والبصيرة ومن ذلك الحديث القدسي العظيم الذي رواه البخاري عن أبي هريرة في ما حدّث به النبي صلى الله عليه وسلم عن ربه فقال: (( يقولُ اللهُ تعالى :مَن عادَى لي وَلِيًّا فقَدْ آذَنْتُهُ بالحَرْبِ، وما تَقَرَّبَ إلَيَّ عَبْدِي بشَيءٍ أحَبَّ إلَيَّ ممَّا افْتَرَضْتُ عليه، وما يَزالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إلَيَّ بالنَّوافِلِ حتَّى أُحِبَّهُ، فإذا أحْبَبْتُهُ، كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذي يَسْمَعُ به، وبَصَرَهُ الَّذي يُبْصِرُ به، ويَدَهُ الَّتي يَبْطِشُ بها، ورِجْلَهُ الَّتي يَمْشِي بها، وإنْ سَأَلَنِي لَأُعْطِيَنَّهُ، ولَئِنِ اسْتَعاذَنِي لَأُعِيذَنَّهُ، وما تَرَدَّدْتُ عن شَيءٍ أنا فاعِلُهُ تَرَدُّدِي عن نَفْسِ المُؤْمِنِ؛ يَكْرَهُ المَوْتَ، وأنا أكْرَهُ مَساءَتَهُ ولابدَّ له منه)).
وفي مقابل ذلك لا شيء يعمي عن معرفة الحق كاتباع الهوى كما بين الله سبحانه وتعالى في صورة ص: (( يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُم بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَىٰ فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ – 26))، ومن أشد أنواع اتباع الهوى الكبر، الذي فسره رسول الله صلى عليه وسلم بأنه “بطر الحق” أي إنكاره وكفرانه، و”غمط الناس” أي التعالي على الناس ومنعهم حقوقهم ومكانتهم، وذلك في الحديث الصحيح الذي رواه مسلم عن عبد الله بن مسعود عن رسول الله صلى عليه وسلم : (( لا يَدْخُلُ الجَنَّةَ مَن كانَ في قَلْبِهِ مِثْقالُ ذَرَّةٍ مِن كِبْرٍ قالَ رَجُلٌ: إنَّ الرَّجُلَ يُحِبُّ أنْ يَكونَ ثَوْبُهُ حَسَنًا ونَعْلُهُ حَسَنَةً، قالَ: إنَّ اللَّهَ جَمِيلٌ يُحِبُّ الجَمالَ، الكِبْرُ بَطَرُ الحَقِّ، وغَمْطُ النَّاسِ)).
وقبل ذلك وبعده، فإن من أركان صلاتنا التضرع الى الله، في كل ركعة من صلوات الفرض والنافلة أن ندعو الله في قراءتنا سورة الفاتحة أن يعرفنا عز وجل بالصراط المستقيم وأن لا نضل عن الحق، وأن لا نتعمد الصّد عنه إن عرفناه، فينالنا غضب الله وإبعاده.
والإخلاص لله هو الإخلاص الذي ينجو به المرء عند الله تعالى، ويوفق به في حياته الدنيا حيثما ذهب، ولكن ثمة إخلاص دون ذلك، كالإخلاص لأمة أو وطن أو عشيرة أو شركة أو مؤسسة أو منظمة أو حزب أو وظيفة أو فكرة مجردة أو نحو ذلك، فإنه كلما تجلى إخلاص المرء لأي منها، بعيدا عن المصالح الشخصية والأوهام المضلّة، كانت معرفته مؤكدة للأنفع والأصح والأصلح لما يعلن أنه مخلص له، وغير ذلك بريق سمعةٍ، وتدليسٌ وخداع.
يتبع ….