هل الجزائر مع فلسطين؟ وإلى أي مدى؟ (3\3)

الجزء الثالث (3\3): 

لم تكن مبادرة لم شمل الفلسطينيين مستغربة من الجزائر، فهي البلد التي اجتمعت فيها كل الفصائل عام 1988 لإعلان قيام الدولة الفلسطينية، كما أن إطلاقها مشروع المصالحة الفلسطينية بعد العملية التطبيعية المغربية الآثمة تصرف سياسي ذكي، غير أن ظروفا أخرى شجعت على المضي فيها، ومنها التطورات الدولية التي باتت تسير نحو التعددية القطبية والتي خفّت فيها قبضة  الولايات الأمريكية المتحدة عن المنطقة،

علاوة على أن الأمريكيين نظروا إلى المبادرة الجزائرية كفرصة لجر حماس وفصائل المقاومة إلى الاعتراف بالشرعية الدولية بحكم العلاقة الطيبة مع الجزائر وفشل مصر والدول الأخرى في ذلك من قبل. فلعل حماس تصبح، من خلال مبادرة الجزائر، عضوا في منظمة التحرير بعد أن تعترف بإسرائيل، والغريب في الأمر أن ثمة في الجزائر من اعتقد بأن حماس لن يكون لها مشكل مع قبول الشرعية الدولية، دون – ربما – الفهم بأن معنى الاعتراف بالشرعية الدولية هو الاعتراف  بالكيان الصهيوني وتسليم سلاح المقاومة للسلطة الفلسطينية. 

ولما تأكد للأمريكان بأن فصائل المقاومة لم تقبل الإمضاء في “إعلان الجزائر” على الاعتراف بالشرعية الدولية  بات الإعلان بالنسبة لهم في خبر كان، وأصبح فعلا ماضيا ناقصا لا وزن له عند الفلسطينيين في حركة فتح ومنظمة التحرير بقيادة عباس بالرغم من أنهم أمضوا عليه (لا لشيء إلا ليحفظوا ماء الوجه للجزائريين)، كما لم يصبح للمشروع قيمة عند الدول العربية المطبعة وعلى رأسها مصر. ثم في الأخير سقطت أهمية الإعلان عند الجزائريين أنفسهم إذ لم يسعوا لتثمينه بمناسبة التطورات الحاصلة، بالرغم من أن هذا المشروع هو الأقدر على وضع تصور عادل للقضية الفلسطينية بعد الحرب القائمة بإرادة الفلسطينيين وحدهم. 

كان بإمكان “إعلان الجزائر”، بالصيغة التي تم الإمضاء عليه من قبل حماس وفتح وكل الفصائل الفلسطينية، أن يحرج الإسرائيليين وليس الفلسطينيين، وذلك بأن يناقش الفلسطينيون داخل منظمة التحرير بعد أن تلتحق بها حماس والجهاد استراتيجية التحرير بما يرونه مناسبا وصالحا لقضيتهم، وفي هذا الإطار لن يكون لفصائل المقاومة ـ وفق ما سمعناه منهم ـ مشكلة في أن ينخرطوا في المشاركة السياسية وإدارة القطاع والضفة والقدس الشرقية ديمقراطيا إذا انسحب منها الإسرائيليون وفق ما يسمى ب”حل الدولتين”، ولكن دون أن يُجبَروا على الاعتراف بإسرائيل وتسليم سلاح المقاومة، وربما يتم الاتفاق على هدنة ما مع الكيان في هذا الإطار. 

إن الإحراج السياسي الذي يسببه مشروعٌ مثل هذا للإسرائليين  يتمثل في أن هذا الخيار  يستحيل الوقوع عمليا، وذلك لأن اليهود المحتلين لا يؤمنون به ولا يقبلونه وقد فعلوا عبر السنوات كل ما يجعله مستحيلا، فهم يريدون مزيدا من التوسع وليس الانسحاب من أي بقعة من فلسطين المحتلة، ولو لا طوفان الأقصى لكان العرب ذاتهم قد تركوا مبادرة حل الدولتين نهائيا، وكان يكون التَّرك نهائيا بالدوس عليه بأرجل السعوديين الذين كانوا يستعدون للتطبيع والاعتراف بالكيان دون اشتراط حل الدولتين بالرغم من أنهم هم أصحاب المبادرة كما هو معلوم، ولو لا الحادثة البطولية يوم السابع من أكتوبر لكان الأمر قد تم. 

كان من المفروض أن تمضي الجزائر في مبادرتها لدعم القضية الفلسطينية، وأن تستعين بتركيا في ذلك إذ في مقاربة هذه الأخيرة نقاط مشتركة مع مبادرة بلدنا، وربما كنا نجد مساحة مشتركة مع قطر وإيران، بدل المشاريع الجارية التي تُطبخ بين أمريكا وبعض الدول العربية، بغرض إحراج المقاومة سياسيا حتى وإن انتصرت عسكريا . وقد يكون هذا الإحراج الذي يمكن أن تصنعه الجزائر للصهاينة ومن والاهم بمبادرتها هو من مسرّعات التحرير، الذي أخذ طريقه بعد طوفان الأقصى إلى أن يتحقق قريبا بإذن الله تعالى. ولكن هل لقادتنا القوة والشجاعة والرؤية لكي ندخل في هذا المسار التاريخي الكبير؟

لقد كان بالإمكان أن يكون هذا الإعلان، منذ أن تم تخريبه من طرف السلطة الفلسطينية ومن وراءها، فرصة للجزائر لدعم المقاومة بكل الوسائل، بكل مصداقية دون أن يلومها أحد، انتقاما لشرف بلدنا الذي لم يقدره عباس ومن معه، كما أن إعلان الجزائر صار يمثل إطارا مناسبا لجميع الأطراف لو وجد قوة اقليمية أو دولية تسنده. ولكن يبدو بوضوح أن أمريكا والدول العربية لا تريد هذا الإعلان ولا شك أن التقارب الجزائري الأمريكي الحاصل لا يساعد على أن يكون للجزائر عبر الإعلان المسمى باسمها دور تستفيد منه حركة حماس وفصائل المقاومة. 

إن ما يفسر التقارب الجزائري الامريكي – الذي منطقيا لا يكون لصالح حماس –  تحولات عديدة منها خيبة الأمل في عدم دخول منظمة البريكس، والغضب من روسيا التي لم تكتف بعدم الدفاع عن الجزائر بل صرح وزير خارجيتها لافروف بكلام منقصٍ لقيمة الجزائر عند ذكره معايير اختيار الدول التي تم ضمها للبريكس، وقد ساعدت الولايات الأمريكية المتحدة الجزائر على التقارب من خلال خطوات علنية لصالح ملف الصحراء الغربية، وذلك بعد ما تم التلاعب بالمخزن المغربي وتحقيق الأهداف المسطرة بشأنه، وفي ظل تعمق أزمات هذا البلد الاقتصادية والسياسية، فلم يعد بلدا ذا سيادية يحتاج من ورطوه في التطبيع (على أساس وعد كاذب) أن يخشوا من رد فعل منه لا يخدم مصالحهم.

ومما يبين أن البعد السياسي كان حاضرا في مبادرة لم الشمل الفلسطيني أن الجزائر لم تهتم بحركة حماس التي شرّفت الجزائر في هذا الموضوع وبقيت ملتزمة بالاتفاق، فلم يُقدم لها إلى الآن أيُّ دعم خاص بها، لا سياسي ولا مالي ولا عسكري، وبقي الموقف الجزائري الرسمي أقرب لحركة فتح ولصالح منظمة التحرير التي ليست حماس عضوا فيها، وذلك رغم الفتور في العلاقة بين الجزائر وعباس الذي ربما سيعود إلى ما كان عليه في زمن بوتفليقة.

إنه لا شك أن الجزائر تراعي علاقاتها مع الولايات الأمريكية المتحدة في الشأن الفلسطيني كغيرها من الدول العربية، وأن قطار التطبيع، إن كان منطلقا دون توقف، فإن الجزائر – بالنسبة لأمريكا – ستكون محطته الأخيرة للأسباب التي شرحها لنا الأستاذ عبد الحميد مهري رحمه الله. ولكن بالإضافة إلى ذلك، ثمة حرج عند حكامنا من الاتجاه الأيديولوجي لحركة حماس وانتمائها الإسلامي السياسي، وذلك من أعقد العقد عند الأنظمة العربية في تعاملها مع القضية الفلسطينية إذ ترى في نجاح حركة حماس الفلسطينية نجاحا للمنافس الإسلامي العنيد في بلدانهم، وربما هو نجاح كذلك لحركة حماس الجزائرية بالنسبة للنظام الجزائري. ولا تدرك هذه الأنظمة الغافلة أن تحرير فلسطين، بغض النظر من الذي سيسهم بفاعلية فيه، هو تحرير للعالم العربي والإسلامي كله، وأن المقاومة الفلسطينية تجاوزت الصراعات السياسية والأيديولوجية القائمة في بلداننا، وأنها أصبحت ظاهرة عالمية، خصوصا بعد طوفان الأقصى، ظاهرة تشمل كل الانتماءات الأيديولوجية والعرقية والدينية والمذهبية والجغرافية. 

لعل ذلك الحرج السياسي هو ما يفسر عدم التفوه باسم حماس الفلسطينية من قبل السيد رئيس الجمهورية حين قال في كلمته التي رحبنا بها جميعا “الفلسطينيون ليسو إرهابيين”، علما بأن الفلسطينيين ليسو متهمين جميعهم من قبل الدول الغربية، وإنما المتهم هو حركة حماس أساسا، والغريب أنه في الوقت الذي لا يستطيع فيه حكامنا التفوه بكلمة “حماس” الفلسطينية نجد أن رؤساء دول وساسة وشخصيات في دول أخرى مطبعة نفوا عن حركة “حماس” بذاتها تهمة الإرهاب.

والخلاصة أن الموقف الجزائري من حيث رفض التطبيع موقف متقدم بالنسبة لكثير من الدول العربية والإسلامية الأخرى، وذلك للأسباب التي ذكرناها من قبل، والتي بينها الأستاذ مهري كما كررناه أعلاه، ولكن النظام الجزائري متأخر وليس متقدما على غيره الآن، بالنسبة لكثير من الدول في العالم، وأنه لا شيء مميز قدمته السلطات الرسمية للمقاومة وللتضامن مع أهلنا في غزة إلى حد الساعة. لا شك أن ثمة مجهودات كبيرة تقوم بها بعض المؤسسات والمنظمات غير الحكومية الجزائرية، وكل ما تقوم به هذه الهيئات التي رفعت العلم الجزائري في غزة مبارك يشرف أصحابها ويدخل في رصيد الجزائر كلها، بل يرفع شيئا من الحرج عن السلطات ذاتها. غير أن الحجم العظيم للمعاناة التي يعيشها أشقاؤنا المظلومون المشردون في أرضهم في غزة، والمستوى التاريخي والمصيري للتحدي الذي تواجهه المقاومة الفلسطينية لا يستطيع إيفاء حقه سوى الدول بمواقفها الواضحة وإمكاناتها الحكومية الكبيرة، وعليه إن مسؤولية تصحيح الموقف والدور الرسمي الجزائري مسؤولية تاريخية أمام الله وأمام التاريخ. 

ثم إن مما يجب الاهتمام به في الأخير بعد نهاية الحرب هو الدعوة الدائمة لليقظة لملاحقة أي تصرف تطبيعي يصدر من أي جهة رسمية أو مجتمعية، ومنها الاختراقات التطبيعية التي نراها أحيانا على مستوى الرياضة أو التجارة أو غير ذلك، أو أي تصرف فيه غموض ويمثل خطرا على القضية الفلسطينية كالموقف المرفوض سياسيا وأخلاقيا الذي قام به وزير الشؤون الدينية بزيارته عميد مسجد باريس الذي ناصر الإسرائيليين علانية في وسائل الإعلام الفرنسية في حديثه عن طوفان الأقصى، دون مراعاة للدماء الغزيرة لأشقائنا في غزة، مما يدل بأن موجات التطبيع في الجزائر ممكنة الوقوع كما حدثت من قبل، وكما كان يمكن أن يحدث عن طريق المتسللين داخل مؤسسات الدولة وفي المجتمع لو لا طوفان الأقصى الذي كسّر موجتها الأخيرة في كل العالم العربي.

 فالحذر الحذر من نخب متطرفة مبغضة لهويتنا وانتمائنا ومقدساتنا، ومن اللوبيات الفرنسية والغربية، أو ربما من يهود وماسونيين استطاعوا أن يتوصلوا  إلى مواقع نفوذ في بلادنا، أو خضوعا لضغوطات خارجية، أو بسبب الطموحات الشخصية. وتمنينا لو أن السلطات سمحت بمرور قانون تجريم التطبيع في البرلمان لتطمئننا بأن هذه المرحلة آمنة بهذا الشأن ولتأمين المراحل المقبلة في المستقبل كما فعلت دول أخرى غير مطبعة، ولكن حكامنا رفضوا ذلك مما يجعل اليقظة مطلوبة أكثر.

وصدق الصحابي حذيفة بن اليمان رضي الله عنه حين قال في الحديث الصحيح الذي ورد في الصحيحين: “كان الناس يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الخير وكنت أسأله عن الشر مخافة أن يدركني”.