هل الجزائر مع فلسطين؟ وإلى أي مدى؟ (2\3)

نحن لا ننكر الخصوصية التاريخية للجزائر بخصوص دعمها الكبير لفلسطين منذ القدم، فقد كتبتُ في عام 2013 كتابا بعنوان “الجزائر وفلسطين” بينت فيه مساهمات الجزائريين لنصرة فلسطين منذ مشاركتهم في تحرير المسجد الأقصى مع صلاح الدين الأيوبي ومنحهم هذا القائد الكبير الأوقاف التي لا تزال إلى اليوم باسمهم كجزائريين من مغرب الأمة الإسلامية (حارة المغاربة)،

وعن مشاركة مجاهدين جزائريين في ثورات الفلسطينيين قبل النكبة وفي حرب الثمانية والأربعين، وعن  أدوار الحركة الوطنية في عهد الاستعمار، سواء كشخصيات مثل عمر راسم والشيخ السعيد الزاهري، وأبو اليقظان، والفضيل الورتلاني، أو كهيئات ومنظمات، وخصوصا الهيئة العليا لإعانة فلسطين عام 1948 التي شاركت فيها كل الأطياف والتوجهات بقيادة الشيخ البشير الإبراهيمي رحمه الله. ثم تحدث الكتاب عن انخراط الدولة الجزائرية المستقلة في دعم الكفاح الفلسطيني مباشرة بعد الاستقلال، سواء من حيث المشاركة في حرب عام 1967 أو في الموقف والإسهام المتميز عام 1973 أو من حيث دعم حركة التحرير الفلسطينية بالسلاح (فتح) عند تأسيسها، وسياسيا ودبلوماسيا، وكيف كانت القوى المعارضة للنظام السياسي الناشئ هي كذلك مساندة لفلسطين، وضربتُ مثلا بمحمد خيضر ومحمد بودية رحمهما الله، ثم كيف تحولت قضية فلسطين إلى قضية مبدئية مركزية عند كل الجزائريين رمَز لها الرئيس الراحل هواري بومدين رحمه الله بقوله ” الجزائر مع فلسطين ظالمة أو مظلومة”، وخصصتُ فصلا من الكتاب لمساهمتنا نحن كأشخاص وباسم حركة مجتمع السلم في نصرة القضية من المساهمات المالية التي ألزمت بها الحركة المناضلين وعائلاتهم سنويا منذ التأسيس، إلى غزوتنا في أسطول الحرية، والتنسيقية الوطنية لمناهضة التطبيع، والجبهة الشعبية لنصرة المقاومة والقضية الفلسطينية، ومؤسسة القدس، إلى حملات كسر الحصار المتتالية وغير ذلك.

فتاريخ الجزائر في المساهمة الجادة والفاعلة في نصرة القضية الفلسطينية، معروف لدينا، و لا تحتاج تلك المساهمات إلى تبيان لنصاعتها ووضوحها، لا يحتاج الأمر منا أن نبرر أنفسنا في القناعة بها. غير أن ثمة تحولات في الموضوع وقعت في فترة التسعينيات أخذت تدفع بالجزائر إلى الاتجاه المعاكس، بل بدأت جهات  نافذة في المجتمع والدولة تسعى خفية تارة وعلانية تارة لجر بلدنا إلى التطبيع مع الكيان.

لقد كان الضعف الذي آلت إليه الجزائر منذ الأزمة الاقتصادية في منتصف الثمانينات، ثم الصراع السياسي والفتنة الدموية التي وقعنا فيها طيلة التسعينيات هي البيئة التي صنعت التراجع في القضية الفلسطينية، تماما مثلما وقع  التراجع في مجال الحريات وفي آمال تحسين المعيشة وظروف الحياة مع تسارع واشتداد الأزمة.

 وحينما جاء بوتفليقة إلى الحكم عام  1999 كانت الجزائر تبحث عن ذاتها ولملمة جراحها وكان مطلب المصالحة الوطنية هو المطلب الذي ضحى من أجله الجميع وتنازل لتحقيقه الأحزاب والساسة الوطنيون عن طموحاتهم السياسية في قيادة وتطوير البلد، وتنازل المواطنون عن حقوقهم الاقتصادية والاجتماعية. وصاحب تلك الظروف في بلادنا حدوث موجة تطبيعية كبيرة في الوطن العربي، كان نصيب الجزائر منها بين 1999 و 2000 المصافحة المشؤومة بين بوتفليقة وإيهود باراك، ومحاولة دعوة أنريكو ماسياس الصهيوني للجزائر، وزيارة الوفد الصحفي الجزائري لدولة الكيان.

غير أن انتفاضة الأقصى في فلسطين في سبتمبر 2000 على إثر دخول المجرم أرئيل شارون باحات المسجد الأقصى أفسدت الحسابات في كل العالم العربي. وفي الجزائر عطل مسيرة التطبيع – قبل انتفاضة الأقصى وبعدها – حركة المجتمع  ضد التطبيع من خلال تنسيقية مناهضة التطبيع التي جمعت شخصيات وطنية مجتمعية وسياسية مهمة بعضها شارك في الحروب ضد الاحتلال الصهيوني، وكذلك الوثبة الجزائرية ضد المصافحة والوفد الصحفي، والتي كان من أبطالها الشيخ محفوظ نحناح رحمه الله الذي حمّل مسؤولية الاختراق التطبيعي الإعلامي السلطات الرسمية آنذاك ووجه لهم نقدا لاذعا، وقد شرفني الله أن كنت عضوا مؤسسا للتنسيقية الوطنية لمناهضة التطبيع آنذاك.

 وبعد تلك المحاولات  التطبيعية الفاشلة بقي صوت الجزائر خافتا بخصوص القضية وساءت العلاقة بمنظمة التحرير ورئيسها محمود عباس الذي تنكر للمساهمات السابقة للجزائر بسبب ارتمائه كلية في الجانب المصري تحت الإرادة الأمريكية. وقد كان عبد الحميد مهري يبين لنا في العديد من لقاءاتنا في الفرع الجزائري لمؤسسة القدس الدولية بأن الولايات الأمريكية المتحدة تطلب من الجزائر أن تنأى بنفسها عن الملف الفلسطيني وتتركه كلية للمصريين، مؤكدا بأنه لا يمكن أن تتوقع أمريكا والدول الغربية أن تذهب الجزائر إلى التطبيع في تلك المرحلة بسبب أن الدولة الجزائرية أسستها حرب تحريرية ضد الاحتلال وأن الروح التحررية في الدولة والمجتمع لا تزال قوية ولا يتحمل الأمر خطوات تطبيعية حاسمة، لا سيما بعد فشل المحاولة المشار إليها أعلاه، وبقي الحد المطلوب من الجزائر أمريكيا هو عدم التدخل في الملف فحسب، وذلك الذي كان.

ولكن مع مرور الزمن بدأت الرياح التطبيعية الكريهة تنبعث من داخل الدولة، وقد سمعت بنفسي مسؤولين كبارا في أواخر عهد بوتفليقة  يتحدثون بكل جرأة  عن رفضهم أن تبقى الجزائر تضحي بمصالحها من أجل فلسطين (!)، زاعمين بأنه لا يمكن أن نكون فلسطينيين أكثر من الفلسطينيين. ولكن برحمة الله بهذا البلد الطيب جاء الحراك الشعبي فكنس كل تلك الأصوات، فغادر الحكمَ بعضُهم، وبقي بعض آخر يكْمُن ينتظر فرصا أخرى. 

وحينما حَلّت موجةٌ تطبيعية جديدة قادتها دولة الإمارات حطت رحالَها في جوارنا بالمغرب، فكان التطبيع المغربي وتحالف المخزن مع الصهاينة سياسيا وعسكريا وأمنيا بمثابة قوة كاسحة أبعدت الجزائر عن التطبيع، مدعَّمة بالقوى الوطنية الجزائرية في الدولة والمجتمع التي لا تزال ذات تأثير كبير ضد التطبيع. وفي هذا السياق جاءت مبادرة المصالحة الوطنية التي تُوجت ب”إعلان الجزائر” خدمة للقضية الفلسطينية كدافع أصيل ولكن كذلك كمشروع سياسي يواجه التحالف المغربي الصهيوني، فإلى أي مآل ذهبت المبادرة؟ هذا ما سنبينه في الجزء الثالث والأخير من هذا المقال بحول الله.

يتبع ..