يتضمن هذا الموضوع ثلاثة أجزاء
أولا – هل كانت معركة طوفان الأقصى ضرورية؟
ثانيا – تقدير الموقف إلى الآن.
ثالثا – ماذا تحقق من أهداف وما هي السيناريوهات الممكنة؟
أولا – هل كانت معركة طوفان الأقصى ضرورية؟
هل كانت العملية البطولية “طوفان الأقصى” ضرورية وتتطلب كل التضحيات الجسيمة التي يقدمها الشعب الفلسطيني في غزة منذ وقوعها يوم 07 أكتوبر/ تشرين الأول 2023؟
لو كنا نريد للجيل الذي يسكن الأرض الفلسطينية المباركة في هذا الزمن أن يعيش مهينا تحت سيطرة الاحتلال وأن يكون مبلغ علمه تحسين ظروفه المعيشية وأن يُورّث الذل والاستكانة لجيل بعده سنقول أن هذه هذه العملية خاطئة وقد جرّت على أهل غزة الويلات وهي تنقل الويل بالتدرج إلى الضفة الغربية.
ولكن إذا كان طوفان الأقصى هو عزمة شعب أبي أراد أن يضحي بكل شيء وأن بتحمل كل المآسي والآلام من أجل تحرير بلده فذلك هو الصواب وتلك الحكمة والشجاعة والعمل الصالح الذي يكتبه الله لهم في صحائفهم ويسجله التاريخ لصالحهم.
لا تذكر الشعوب المحتلة تضحياتها الجسام بعد قهرها المحتل وإخراجه من أرضها إلا بالعزة والمجد والفخار.
فهل ندم الفيتناميون على قتلاهم في حربهم ضد فرنسا، ثم ضد أمريكا الذين بلغ تعدادهم أكثر من ثلاثة ملايين في ثمان سنوات، وجرحاهم ومفقوديهم بأضعاف ذلك؟! وهل يندم الجزائريون على المليون والنصف من الشهداء في السنوات السبع في الثورة التحريرية النوفمبرية والملايين السبع من الشهداء وأضعاف ذلك من الجرحى والمفقودين طيلة سنوات الاحتلال كلها!؟
ألم تتحول تضحيات الشعوب أثناء محاربة المحتلين إلى ذكريات مجيدة تدل على ثباتهم وعظمتهم وشموخهم. والله ما الفلسطينيون إلا من هذه الشعوب الأبية، بل هم أفضل من ذلك إذ ذكر النبي الكريم ثباتهم وخلّده في حديثه الشريف في مسند الإمام أحمد عن أبي أمامة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: “لَا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي عَلَى الْحَقِّ ظَاهِرِينَ لَعَدُوِّهِمْ قَاهِرِينَ لَا يَضُرُّهُمْ مَنْ خَالَفَهُمْ إِلَّا مَا أَصَابَهُمْ مِنْ لَأْوَاءَ حَتَّى يَأْتِيَهُمْ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ كَذَلِكَ”. قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَأَيْنَ هُمْ؟ قَالَ: “بِبَيْتِ الْمَقْدِسِ وَأَكْنَافِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ”.
إن الذي يفهم المآل الذي وصلت إليه القضية الفلسطينية من خلال الكيد الصهيوني والغربي والخيانة العربية سيدرك بأن هذه المعركة كان لا بد منها إذ لم يبق لفلسطين وللأمة الإسلامية شيء تخسره بميزان المبادئ والمصالح الحقيقية لعموم الناس، لا بميزان المكاسب الشخصية والمصالح الذاتية.
فصفقة القرن التي فشلت سياسيا صارت تقترب إلى التجسيد الفعلي على الأرض بالأمر الواقع. ومن ذلك أن كتائب المقاومة في غزة تحولت إلى جيش دفاعي لحماية غزة وحدها، فإذا توفر الجيش والسلطة والشعب والإقليم فقد باتت غزة دولة قائمة بذاتها لا ينوي الاحتلال إعادة احتلالها أبدا وما عليه إلا أن يضيف لها جزء من سيناء ليكون ذلك هو الوطن البديل للفلسطينيين، وفي انتظار توفر شروط ذلك يبقى قطاع غزة يعاني ويلات الحصار الظالم الدائم، وحتى وإن عملت المقاومة على ضرب الصواريخ انتصارا للقدس دون تقدم بري فإنها لن تغير المعادلة إلا قليلا.
وأما الضفة الغربية فإن اتساع المستوطنات وطرد الفلسطينيين من أراضيهم وقراهم قد قضى نهائيا على حلم الأنظمة العربية في التصالح الشامل مع دولة الاحتلال إذا قبلت حل الدولتين، ومع مرور الزمن وتعمق الهوان العربي سيُحيي الصهاينة مشروع الترحيل إلى الأردن لسكان الضفة من الفلسطينيين، ومن بقي منهم سيكون كثير منهم مندمجا في المشروع الصهيوني نفسيا وفكريا وربما ثقافيا لا يفكر في بلد اسمه فلسطين مطلقا، تماما كما وقع للسكان الأصليين في الأمريكيتين، وتؤكد صعوبةُ تجذر المقاومة في عموم الشعب الفلسيطيني في الضفة الغربية خطورةَ المآل إن لم يقع ما يغير ذلك.
وأما القدس فقد طمس معالمَها الإسلامية العربية مشاريعُ التهويد المستمرة، والمسجد الأقصى – عنوان معركة الطوفان – قد توصّل المحتلون إلى فرض التقسيم الزماني الذي كان يبدو مستحيلا في سنوات مضت، والسعي إلى مرحلة التقسيم المكاني جاريا وربما التوصل يوما إلى هدمه كلية لإقامة “الهيكل” المزعوم على أنقاضه ما لم يُحدث الله أمرا.
وأما الفلسطينيون في فلسطين التاريخية المحتلة سنة 1948 فهم يعيشون ضمن نظام التمييز العنصري الأكثر قسوة ووفق مخططات إفساد الأجيال الشابة فكريا وأخلاقيا وصحيا وثقافيا، وقد يأخذون هم كذلك نصيبهم يوما ما من الترحيل إلى الأردن أو غزة وسيناء ضمن مشروع صفقة القرن.
وفي العالم العربي كان التطبيع قبل طوفان الأقصى يتسع اطّرادا وتتسارع إليه الأنظمة الحاكمة الواحدة تلو الأخرى، في السر والعلن، بين خائن عميل، أو خائف ذليل، أومنصرف عن القضية الفلسطينية قد شغله الكرسي والعرش يخاف على مصيره من شعبه، وجميعهم في صراع بيني نكد يدّخرون لبعضهم البعض ميزانيات جبارة لشراء سلاح لم يشأ أبدا أن يتجه الوجهة الصحيحة ضد الكيان الصهيوني.
إن هؤلاء الحكام المتخاذلين لا يدركون بأن غفلتهم ستعيد لليمين الإسرائيلي الحاكم رغبته في إحياء مشروع أسوء من مشروع صفقة القرن، وهو مشروع إسرائيل الكبرى فيذهب جزء كبير من بلدانهم ثم نكون جميعا- لا قدر الله – أغلبية عربية مهينة تقودها أقلية يهودية عاتية.
أما التيار الإسلامي المعول عليه لتحرير الأمة وتحقيق نهضتها فقد بات معطلا لا يقدر على التغيير، إما مهشما بالاستئصال أو مجمدا سياسيا بالإدماج في منظومات الحكم الفاسدة، أو عاجزا لا يقدر على شيء ذي تأثير فعلي في الموازين في بلدانه.
حقيقة لم يكن ثمة شيئ يخسره الفلسطينيون، أو تخسره الأمة في هذه الحلقة المفرغة التي توحّلت فيها، فكان طوفان الأقصى هو محرك المياه الراكدة المتعفنة، المحرر من الركود القاتل، الفاتح لعهد جديد، أي شيء مستجد فيه أفضل مما نحن عليه، بميزان مصير المشروع لا مصائرنا الشخصية، ولعل الطوفان يدفع بإذن الله إلى بداية نهضة الإسلام والمسلمين، وستبقى القضية الفلسطينية هي بوصلة الأمة نكون بخير ما كانت بخير، ونضل ونشقى ما شقت وضلت الطريق.
فلو ركزنا على القضية الفلسطينية فقط، لأدركنا بأن من خطط ونفذ لمعركة طوفان الأقصى كان يدرك أن القضية الفلسطينية في مأزق، في غزة والضفة والقدس وفي الداخل الفلسطيني، وأن هذه القضية المقدسة آيلة لما هو أسوء بتخطيط أمريكي صهيوني ودعم عربي كما بيناه أعلاه، وبتعطيل مهيكل لأي وثبة فلسطينية وطنية أوقومية أوإسلامية من قبل السلطة الفلسطينية وتنسيقها الأمني مع الصهاينة.
وقد نجحت هذه الحسابات المباركة إلى نقلنا جميعا إلى وضع جديد نكون فيه أكثر حرية وطموح وإنجاز لصالح بلداننا ولصالح أمتنا، وإنها لخطوة ثابتة في الاتجاه الصحيح نحو تحرير فلسطين وستثبت الأيام القادمة ذلك بإذن الله.
يتبع ..
المقال التالي: ثانيا – تقدير الموقف إلى الآن.