لم أتناول الشأن السياسي الوطني منذ مدة، ولم أر نقاشا سياسيا وتجاذبا في المواقف والآراء منذ فترة طويلة وكأن السياسة ماتت في بلادنا، حتى استفزني أحدهم بنقاش عابر عن بعض الانجازات التي لم تقنعني صرح بها السيد رئيس الجمهورية في لقائه الأخير مع الصحافة، فرجعت إلى متابعة الحصة كلها حتى أسمع بنفسي ما قيل فلا أكون متقوّلا هاويا أو يهوى المشاكسة لا غير.
إن أهم ما استفزني في لقاء السيد الرئيس مع الصحافة هو تصريحه بأن الناتج الإجمالي الخام للجزائر وصل مقدار 225 مليار دولار في هذه السنة (قبل نهايتها)، وقد كرر هذا الرقم وأكده عدة مرات، بل أضاف أنه يمكن أن يكون في حدود 240 إلى 250 مليار دولار، وهذا الإصرار في ذكر هذا الرقم يدل بأنها ليست هفوة لسان بل ربما يكون قد ناقشه مع مستشاريه، وهو رقم غير معقول لأننا لو سلمنا به وحسبنا نسبة النمو الاقتصادي بين هذه القيمة (ن = 225 مليار دولار) وقيمة الناتج الإجمالي الأخير (ن-1) الذي هو 191,91 مليار دولار لعام 2022 حسب الإحصائيات الرسمية وأرقام البنك الدولي فإن نمو الناتج الإجمالي الخام هو 17.24 علما بأن نمو الناتج الإجمالي الخام (PIB) يحسب كالآتي: (الناتج الإجمالي الخام ن) – ( الناتج الإجمالي الخام ن – 1) ÷ (الناتج الإجمالي الخام ن – 1) × 100.
وحينما نقول أن معدل النمو الاقتصادي للجزائر هو 17.24 % معنى ذلك أن هذا حدث عالمي تاريخي ستتحدث عنه كل وسائل الإعلام لم تحققه حتى الصين في بدايات صعودها الاقتصادي.
كما أن هذا الرقم مخالف لتوقعات الحكومة التي أعلنتها رسميا والتي مفادها أن النمو سيبلغ نسبة 4.1 % عام 2023، وهو كذلك غير منسجم مع مختلف الأرقام الأخرى الرسمية لنمو مختلف القطاعات، ولكن خصوصا غير منسجم تماما مع الحالة الاقتصادية الواقعية التي يعيشها المواطن.
والمشكل في إعلان الأرقام الخاطئة أنه ليس هذه هي المرة الأولى، فقد حدث ذلك في إعلانِ رقمٍ أدهش بعض وسائل الإعلام العالمية يتعلق بعملية استرجاع الأموال المنهوبة، وحجم السوق الموازية، وكذلك ما يتعلق بأرقام ذات اتصال بالنمو الفلاحي وبحجم المياه التي تم تحليتها وغير ذلك، وقد تم التراجع فعلا عن بعض هذه الأرقام.
ربما تكون الأخطاء بسبب الخلط بين الناتج الإجمالي الخام الحقيقي والاسمي، أو ربما هناك نية لتعظيم الأرقام لإخفاء نية المواصلة في الإصدار النقدي التي لا يرى المواطنون آثارها المدمرة في حياتهم إلا من خلال التضخم وغلاء الأسعار.
إن النتيجة الخطيرة في الوقوع في هذه الأخطاء، سواء كانت مقصودة أو غير مقصودة هو تشكيل حالة عدم ثقة في الخطاب الرسمي الاقتصادي لدى الرأي العام الوطني ومع المتعاملين الاقتصاديين من الخارج.
إن التنمية الاقتصادية ليست مجرد أرقام يطلقها المسؤولون، خصوصا في الدول التي لا توجد فيها رقابة حقيقية على الشأن العام، فلا أحد يجادل في أرقام قادة البلد، لا أحزاب ولا مسؤولون سابقون، ولا مجتمع مدني، ولا مراكز دراسات ولا أساتذة جامعيون، ولا صحافيون، وهي حالة تعمقت أكثر في السنوات السابقة في بلدنا، إذ لم نصبح نقرأ لأشخاص كبن بيتور، والعميري، ومقبول، وجابي، وغيرهم، كما كان الحال قبل سنوات، ودون ذكر الذين كانوا يساهمون بآرائهم، وكنا ندعوهم هم الآخرين لندواتنا، ولكن حين تحملوا مسؤولية عابرة في الدولة لم يعودوا إلى التعبير عن آرائهم بعد أن غادروا المنصب.
إن التنمية الاقتصادية الحقيقية بالنسب العالية التي يريد المسؤولون ووسائلهم الإعلامية إقناعنا بها هي تلك التي تُرى في نمو الدخل الفردي بحساب التضخم وتهاوي قيمة العملة، و تُلاحظ في بروز المؤسسات الاقتصادية الناجحة والماركات الجديدة وتطور العمران وشبكات الطرقات والهياكل القاعدية الجبارة.
وبالنسبة لدخل الفرد حين ذكّر السيد الرئيس بأن الأجور تضاعفت بنسبة 47% لم يذكر نسبة ارتفاع الأسعار في السوق، بعيدا عن أرقام التضخم الرسمية.
بإمكان أي معيل أسرة أو ربة بيت أن يذكر له نسبة ارتفاع الأسعار بكل أنواعها، أغلبها ارتفع بنسبة 100% ومنها التي ارتفعت بنسبة 300% وأكثر خلال هذه السنوات الأخيرة.
وقد تجنب الرئيس الجواب عن سؤال القدرة الشرائية مرتين، طرحه عليه ممثل جريدة الخبر الذي حاول أن يكون متميزا بطرح بعض وجهات النظر الأخرى رغم اضطراره أحيانا للإشادة بأعمال الرئيس التي طبعت تدخلات الصحفيين عموما، خلافا لما يكون عليه الإعلامي المهني عند مقابلة الضيف ولو كان مسؤولا إذ يضغ نفسه مدافعا عن الرأي الغائب.
فقد أحسن الصحفي طرح إشكالية ضعف الإنتاج الوطني وعدم بروز مؤسسات اقتصادية كبرى جديدة، وبقاء ربراب وحده متربعا على هذا العرش في القطاع الخاص، فبالفعل لو كان ثمة تطور اقتصادي لبرز في نشوء الشبكات الواسعة للمؤسسات الصغيرة والمتوسطة، ولبرزت بعض المؤسسات الكبرى و”البراندات” الجديدة.
ولكن هذا لا يمكن أن يحصل، إذ لا يزال الفساد ينخر الاقتصاد الوطني، وهو يتمدد يوما بعد يوم في كل المجالات، وأنا شخصيا أعرف أمثلة صادمة عن عرقلة مستثمرين وطنيين يستجيبون للمعايير التي ذكرها السيد رئيس الجمهورية، من قبل إداريين وولاة، وأعرف نماذج ابتزها قضاة وموظفون، ومؤسسات كبيرة تكاد تتوقف عن العمل بسبب الصعوبات والضغوطات التي تتعرض لها، وقد ذكرت نماذج عن هذه الحالات لبعض المسؤولين.
وقد سمعت رئيس الجمهورية يتحدث في الحصة عن الرقمنة، وكأنه وهو الرئيس يشكو لنا عدم تحقيقها في الجزائر، ولا أحد يجهل بأن سبب عرقلة الرقمنة هي شبكات الفساد، وقد سمعت نماذج غريبة في هذا الصدد من موظفين نزهاء، ومن ذلك حالة خطيرة تتعلق برقمنة قطاع الضرائب عالجتها حين كنت رئيسا للحركة، حيث تم التعاقد منذ سنوات مع شركة اسبانية أتمت المشروع وسلمته للمعنيين وأخذت حقها بملايين الدولارات ثم وضع البرنامج في الأدراج، وقد كلفت النواب بتناول الموضوع مع رئيس الحكومة نفسه وأبدى اهتمامه بالمسألة ولكن استمر التأجيل ولا يزال قطاع الضرائب إلى الآن يتعثر للوصول إلى مستوى الرقمنة المانع للفساد، فالذي يجب أن يعلمه السيد رئيس الجمهورية أن الإرادة الشخصية والتشريع – كما تحدث عن ذلك في الحصة – ليس هو ما يحل المشكل، ولكن التدافع هو الذي يضيق على الفساد (les contre-pouvoirs) المتمثل ابتداء في الانتخابات الحرة والنزيهة التي تنتج نوابا نزهاء ومسؤولين وشجعانا، ثم حكومات بوزارات وإطارات نابعة فعلا من الإرادة الشعبية ومسؤولين يخافون الإقصاء الشعبي، ومجتمع مدني مفيد غير انتهازي، وصحافة حرة.
أما عن الاقتصاد الموازي الذي ذكره السيد رئيس الجمهورية في حديثه، فلا يمكن بتاتا أن يُحسب أداؤه في الناتج الإجمالي الخام، لأن الناتج الإجمالي الخام هو مجموع القيم المضافة التي تدخل الدائرة الاقتصادية الرسمية، والاقتصاد الموازي لا يدفع الضرائب فكيف يتم حسابه، والقطاع الموازي يجب التعامل معه لكي لا يبقى موازيا فيكون هامشيا، لا يمثل نصف الكتلة المالية التي تتحرك في السوق كما هو الحال اليوم.
الاقتصاد الموازي سرطان لا يمكن التعايش مع الحجم المدمر للاقتصاد الوطني الذي بلغه، وبدل القيام بالإصلاحات اللازمة التي تنهي الأسباب الحقيقية التي تديم وتوسع الاقتصاد الموازي، كالإصلاح البنكي والضريبي والإداري وإنهاء الفساد وابتزاز التاجر والمتعامل الاقتصادي وتوفير مختلف الخدمات التي يحتاجها المتعامل ليثق في الدولة ومؤسساتها وقوانينها فيُظهر أعماله ويدفع الضريبة التي عليه، فيرتفع الناتج الإجمالي الخام ارتفاعا حقيقيا، بدل ذلك نسمع أحيانا كلاما من بعض المسؤولين وكأنهم يشيدون بالاقتصاد الموازي.
إن رفع الأجور الذي ينفع المواطن الجزائري هو الذي تقابله وفرة في الإنتاج الوطني على مستوى السلع والخدمات التي تدفعها المؤسسات الاقتصادية الناجحة للأسواق المحلية والتي لها القدرة على المنافسة في الأسواق العالمية.
أما رفع الأجور في الجزائر فلا علاقة له بالتنمية الاقتصادية، وإنما نتيجة الإصدار النقدي (طباعة النقود) الذي بدأه أحمد أويحيى وصادق عليه برلمان الأغلبية آنذاك ليكون لمدة خمس سنوات وبأعداد هائلة بعيدا عن كل القواعد والمعايير العلمية الاقتصادية لهذا الشأن كما شرحناه مرات عديدة في وقته، وكل المؤشرات تبين بأن هذا الإجراء المهلك للاقتصاد الوطني ولمعيشة المواطنين لا يزال مستمرا، وقد كان أحد المسؤولين شهما معنا، إذ اعترف خارج الإطار الرسمي قائلا لنا: “إن ما نبهتم إليه في مقاومتكم سياسة الإصدار النقدي كان حقا وما نعيشه اليوم من الارتفاع المطرد للأسعار وغلاء المعيشة هو ذلك الذي استشرفتموه في وقته”.
إن من أكثر التفسيرات ظلما لعقول الجزائريين هو التفسير الذي يذهب إليه السيد رئيس الجمهورية حين يطرح عليه سؤال غلاء المعيشة بإرجاعه ارتفاع الأسعار إلى المضاربة الإجرامية فحسب، إذ لا تمثل المواد التي يتم تخزينها بغرض المضاربة شيئا كبيرا بالنسبة لمختلف السلع والخدمات التي ارتفعت أسعارها، على مستوى المواد الغذائية، والمواد المنزلية والكهرومنزلية، ومواد البناء، والسيارات، وكراء المحلات والسكنات، وأسعار العقار، والمواد المدرسية وغيرها.
وحينما نتحدث عن المضاربة، ما هي آثار الحملة العاصفة التي تم إطلاقها، والتي أصابت تجار مجرمين حقيقة، ولكن مست كذلك أبرياء وفق ما جاءنا من شكاوي عائلاتهم، لم تؤثر هذه الحملة كثيرا على المستوى العام لارتفاع الأسعار. علاوة على أهمية التفريق بين المضاربة ومفهوم المخزون (stock) المؤسسي العادي بالنسبة للمواد القابلة للتخزين ضمن الحدود القانونية والمؤسسية المعقولة، إذ لا يمكن معاقبة الناس دون تشريع قانوني يمنع الظلم والفساد والابتزاز، ودون حماية استعمالهم القواعد المؤسسية المعمول بها.
كما أنه لا يمكن الاتكاء على التضخم في الأسواق العالمية لتبرير غلاء المعيشة في الجزائر، فالسكان في الدول الغنية مستاؤون من نقص الرفاه الذي تعودوه بفعل أزمة النظام الرأسمالي ذاته كما بيناه في العديد من المقالات والمداخلات، أما المواطنون في بلادنا فإن الملايين منهم يعيشون صعوبات معيشية جمة إذ الكثير من العائلات المستورة سابقا باتت تلامس مستوى الفقر، فالموظف الذي يأخذ أجرة شهرية في حدود 30.000 دج فقير فقرا مدقعا، والذي يأخذ 40.000 ليس بعيدا عنه، وبالكاد يصل الذي يأخذ 50.000 إلى حفظ توازنه المالي، أما إن كان يدفع أجرة كراء بيته، وزوجته لا تعمل، فهو في تعاسة وعوز كذلك، وليس بعيدا عنه في هذه الحالة من يأخذ 60.000 و 70.000 دج وربما أكثر. ومن أسوء ما نقله لي أحد المواطنين (لم أسمع ذلك بنفسي) أنه حينما سأل صحفي مسؤولا كبيرا عن الموظف الذي يأخذ أجرة 30.000 دج قال له: “ينافيغي” ونحن جميعا نعمل ماذا تعني هذه الكلمة الفرنسية التي عربت إلى الدارجة، أي عليه أن يجد مصدرا آخر، ولو بالرشوة أو السرقة أو غير ذلك، وصدق من قال: ” أن تعميم الرشوة وسيلة حكم في البلدان ضعيفة الأجور”.
وقبل أن نغادر الحديث عن غلاء المعيشة نؤكد ما ذهب إليه السيد رئيس الجمهورية في هذه المقابلة الإعلامية بأن الشعب لا تحركه إلا القضايا الاجتماعية، ولكنه يخطئ حين يقول بأن الشعب الجزائري راض ولم يخرج للشارع، فالشعب الجزائري خرج للشارع بالملايين في الحراك الشعبي بطريقة حضارية سلمية، وعبّر عن رفضه لطريقة إدارة البلاد، وخروجه هذا كان قبل أربع سنوات فقط، والشعوب لا تخرج للشارع في كل سنة، ولكن خروجها يخضع لحالات سننية لا يعرفها إلا الله والراسخون في العلم، وأكثر من يجهلها، في التجارب الإنسانية، هم الحكام.
إن الذي أدعم به كلام رئيس الجمهورية أنه ليست الأحزاب ولا الشخصيات السياسية من يخرج الناس للشارع، ولكن – عبر التاريخ – الحكومات هي التي تخرجهم حينما تفشل في خدمتهم وإسعادهم، ولا أظن أن رئيس الجمهورية يجهل بأن أولئك الموظفين الذين أشرت إليهم سابقا والذين ذكرت أجورهم ليسو في رغد العيش، ربما هم صابرون ولكن ليسو راضين، وهؤلاء بالملايين وليس بالآلاف ولا بعشرات الآلاف، وهؤلاء هم الطبقة الوسطى التي أشار إليها السيد الرئيس، والتي أوافقه الرأي بشأنها كونها هي صمام الأمان في البلدان فعلا. إن هؤلاء تتآكل قدراتهم الشرائية يوما بعد يوم في الجزائر، فالحذر الحذر.
إن الاقتصاد الجزائري لا يزال اقتصادا ريعيا يعتمد على الطاقة، وقد تحدثنا عن الحالة المعيشية الصعبة التي لا ينكرها أحد، أما التحسن الملحوظ في التوازنات الكبرى فسببها ارتفاع أسعار البترول والسياسات الحادة في تقليص الواردات، التي ساهمت في غلاء المعيشة وإعاقة بعض الصناعات.
إن اقتصادنا إنما يربح الوقت بالإصدار النقدي، وقد أعطاه الله فرصة أخرى بارتفاع أسعار الطاقة بسبب الحرب في أوكرانيا.
ولا تزال الطاقة تعاني من مشاكلها الثلاثة التي أشرنا إليها في أعز مراحل البحبوحة المالية في زمن بوتفليقة رحمه الله، حين كانت العصابة تتأسس، لم يتغير شيء في إنتاج الطاقة، لم نصبح نقدر على إنتاج مليون برميل يوميا كما كنا من قبل، وتلك الاكتشافات التي تحدث عنها السيد الرئيس، تم الحديث عنها منذ سنوات، فهي كما قال الخبير في الطاقة والوزير السابق عطّار لن تكون بحجم حاسي مسعود وحاسي الرمل، فلم نر أثرا لها في الإنتاج المعلن عنه رسميا ولا أحد يتوقع ارتفاعا معتبرا في أكثر سيناريوهات الحكومية تفاؤلا، أما مشكلة الاستهلاك المحلي فإن السياسات الشعبوبة المتبعة والتي أكدها السيد الرئيس في مقابلته مع الصحافة لا تزال قائمة، لو تتواصل بهذه الوتيرة لن نجد ما نصدره في أجل منظور، وذلك بتوسيع إنتاج الكهرباء من الغاز بزيادة 150% كما ذكر الرئيس في لقائه دون مراعاة الآثار المستقبلية على قدراتنا التصديرية وعلى التوازنات المالية، ودون سياسات حازمة في الفاعلية الطاقوية، وبحديث كثير عن الطاقات المتجددة منذ 2011 بلا نتائج تذكر، وبلا اهتمام في إنتاج الكهرباء من الطاقة النووية (التي باتت ربما التحولات في النيجر تتيحها).
أما الأسعار فهي الشيء الوحيد الذي يحرك المسؤول الجزائري فعليا، كما كان يقول الأستاذ بن بيتور “اقتصاد البرميل”، وهو عنصر لا نتحكم فيه، بل ليست لدينا قدرات الاستشراف في تطوراته، وقد تتراجع الأسعار في الوقت الذي نعتقد بأنها سترتفع.
ومن المؤسف حقا أن تكون الأسعار هي التي تؤثر تأثيرا فعليا على السياسات وأذكر في هذا الصدد الهلع الذي أصاب السلطات لما كانت أسعار البترول تتهاوى فأصبحت التحويلات الاجتماعية ودعم الأسعار تمثل قنبلة مميتة لهم فأطلقوا “مبادرة لم الشمل” من أجل تشكيل جبهة واحدة ترافق مراجعة سياسات الدعم وطلبوا مني تعيين من يمثلنا في اللجان الرسمية التي تدرس الموضوع، ولكن ما أن ارتفعت الأسعار بسبب الحرب طووا أمر المبادرة ولم تجتمع تلك اللجان أبدا.
ولا شك أن هذا التصرف دليل على العشوائية والسير في الشأن العام يوما بيوم دون رؤية وطنية جادة وصامدة، ولا رؤية حقيقية إلا رؤية الاعتماد على مداخيل الطاقة الأحفورية غير الدائمة.
ربما يكون إطلاق رقم الإنتاج المحلي هو أهم ما قيل في لقاء الرئيس مع الصحافة مما يثير الانتباه أكثر، ولكن يمكن مناقشة مضامين الخطاب في العديد من الأفكار المتعلقة بالقطاعات التي تم التطرق إليها والتي أتناولها في الفقرات التالية وفق الأهمية وليس وفق تسلسل ورودها في الحصة، وأكتفي في هذا المقال بتسجيل الأفكار التي أراها من وجهة نظري خاطئة وأعود في مساهمات لاحقة ما أمكن لإعطاء البدائل قطاعا قطاعا: – في ما يتعلق بالسكن، بدأ الرئيس متمسكا بالنهج القديم الذي أسسته الشعبوية الرسمية والتي تطبق في الجزائر منذ عقود دون أن تحل مشكل السكن رغم الحجم الهائل من السكنات التي تم بناؤها وتوزيعها منذ بداية التوجه والتي تتجاوز أصلا رقم حجم الطلب المتراكم منذ ذلك الحين كذلك، فرغم كل المجهودات الجبارة التي قامت بها الدولة في هذا القطاع لا تزال أزمة السكن مستمرة وتجر معها حجم عظيم من الفساد والتبذير والفوضى والبناء الرديئ وأحيانا الهش الذي عمق أزمة العمران في الجزائر، وقد أنشأ هذا الأسلوب العمراني ثقافات وعادات اجتماعية سلبية وأزمات نفسية مستعصية عقدت إدارة القطاع أكثر فأكثر.
وما قيل في الحصة من أحد الصحفيين في اللقاء عن نجاح البرامج السكنية الجديدة فإنه يجانب الصواب، إذ كيف يقال أنها نجحت ولم تقيم بعد تقييما موضوعيا من أي جهة كانت، وكيف يقال أنها نجحت والمكتتب لا يأخذ سكنه إلا بعد عشر سنوات وخمسة عشر سنة، وحين يدخلها يضطر لإعادة إصلاحها من الداخل وإذا كان حظه سيئا فمُنح سكنا في الطوابق العليا يدخل في مأساة جديدة، خاصة إذا كان في بيته مسنون أو مرضى، بسبب عدم وجود المصاعد أو اضطرابها الدائم في العديد من الأحياء، ناهيك عن عدم شفافية توزيع المواقع السكنية إذ يُحرم المكتتبون الذين يسكنون الأحياء المفضلة التي بنيت فيها سكنات عدل ويوجهون إلى أحياء أخرى بعيدة، ويؤتى بمكتتبين من أماكن بعيدة بدلهم بدون أي معايير واضحة، ناهيك عن ما يقال ويقال في خلفية هذا التوزيع غير الشفاف الذي قد نعود إليه إذا لزم الحال.
وما يقال عن برنامج عدل يقال عن البرامج الأخرى، ومن القضايا المهمة التي أثارها السيد رئيس الجمهورية بهذا الخصوص نفاذ الجيوب العقارية في العاصمة بما لا يسمح في الاستمرار في بناء سكنات البرامج الجديدة، والسؤال الذي يطرح لماذا تم اقتحام هذه الجيوب حتى نفذت، ثم حين تنفذ ولا تبقى فرصة للبناء في قلب العاصمة يطلب من الجزائريين التفهم كما تمنى رئيس الجمهورية في الحصة. وفي كل الأحوال من كان يريد أن يسكن في قلب العاصمة لن يتفهم ولن يقنعه رئيس الجمهورية ولكنه في الأخير سيقبل بالأمر الواقع حين يكون محتاجا فعلا للسكن.
إن السؤال المطروح في هذا الشأن لماذا تم إفساد الأنساق العمرانية ذات السكنات الفردية في العاصمة بإقحام بنايات شامخة في الجيوب العقارية؟ لماذا حرم السكان من المساحات الخضراء، والملاعب والمرافق وابتلي الجميع بالزحام المروري والكثافة في الفصول الدراسية، والتسبب في نمو الاضطرابات النفسية والآفات الاجتماعية ونشرها في كل مكان. لقد رأيت في الجزائر العاصمة في هذا الشأن حقا تدبيرا عمرانيا يصعب فهم خلفياته، وقد يتطلب منا الغوص أكثر في تلك الخلفيات.
وعلاوة على هذه الأخطاء التدبيرية إن محاولة جعل هذه البرامج هي أساس حل مشكل السكن خاطئ وسنتحدث عن الحلول التي نقترحها لاحقا.
لا شك أن السيد رئيس الجمهورية طرح أفكارا جيدة في العديد من الملفات، ومنها رأيه في أولوية السكة الحديدية، وأذكر أنني كنت أكرر هذا الرأي مرارا في سنوات الانبهار بالطريق السريع شرق غرب، إذ كنت أشرح مرارا بأن الدول التي تطورت اعتمدت على السكة الحديدية، وكنت أضرب المثل بألمانيا، كما بينت بأن التركيز على الطريق السريع على حساب السكة الحديدية كان بتأثير فرنسي، حيث كانت سوق السيارة الفرنسية تعرف ركودا كبيرا، خصوصا في أوربا، وأنها كانت تبحث عن منافذ سوقية أخرى، فوجدت الجزائر لقمة سائغة.
ومن تدابير لوبياتها في هذا الأمر بالإضافة إلى تشجيع الطريق السريع كان تشجيع القرض الاستهلاكي الخاص بالسيارات والذي جعل أعدادا هائلة من الموظفين يقتنون سياراتهم، ويا ليت لو كانت تلك الظروف فرصة للانتقال إلى صناعة السيارة الجزائرية بالشراكة مع شركات لها الاستعداد للانتقال من التصدير إلى الإنتاج بنسب إدماج متصاعدة، ولكن النتيجة كانت أكذوبة “سانبول” التي سميتها آنذاك ” أكذوبة القرن” في مداخلة تجاوزت مليون مشاهدة على اليوتيوب، وفي المقابل تم تدمير كل الماركات الأخرى غير الفرنسية إلى اليوم ومنها بشكل أساسي السيارة الألمانية التي كانت في رواق جيد في بلادنا، ولم تكن عليها مؤاخذات أكثر مما كان على السيارة الفرنسية التي حافظت على فرصتها إلى الآن، وأخشى أن يحدث للسيارة الإيطالية ما حدث للسيارة الألمانية.
إنني أتمنى فعلا أن تكون عزيمة الرئيس في المضي إلى إنجاز مشروع السكك الحديدية عزيمة قوية، ليس بين غار جبيلات وميناء وهران ومن أجل نقل الفوسفات إلى عنابة فقط، كما ذكر، بل لكل جهات الوطن، وقد تحدث مشكورا عن فوائد السكة الحديدية بما يكفي وبما يقيم عليه الحجة فلا داعي للرجوع لذلك، أتمنى أن لا يتم التراجع عن ذلك وأن لا نسمع مرة أخرى ما ذُكر في الحصة بأن خبراءنا قالوا أن الدراسة وحدها تدوم 30 سنة! وقد كان الجواب منقصا لمكانة هؤلاء الخبراء حيث تأكد بأنه سيتم المضي في المشروع بعد انتظار تقدير الصينيين، هؤلاء الصينيون الذين يعتمدون عادة السرعة في الدراسة وفي الإنجاز، وسيكون ذلك في مصلحة الجزائر وفي مصلحته الصين من حيث أن السكة الحديدية ستساهم في امتداد طريق الحرير إلى البحر الأبيض المتوسط قبالة الضفة الجنوبية لأوروبا.
ومن العبارات المثيرة التي أطلقها الرئيس قوله، الحجم العظيم من المياه التي قال بأنه تم تحليتها مما لا يتناسب مع المعقول، وكذلك بأنه يمكن توفير محطات تحلية مياه البحر لكل قرية على الساحل الجزائري، وأظن في هذا الصدد أن مستشاريه لم يضعوا بين يديه كلفة محطة تحلية المياه.
وبسبب الكلفة العالية لهذا الخيار لا يمكنه أن يكون هو الحل الجذري لمشكلة نقص مياه الشرب، كما أن مشاريع “النقل الكبير للمياه” (les grands transfers d’eau) عبر مساحات شاسعة في الصحراء ليست حلا للمشكلة، بسبب كلفتها، وكلفة المشاريع المرافقة كسلسلة المضخات لتجاوز إكراهات العلو، والصيانة عبر مساحات كبيرة.
وأذكر أن الأستاذ بن بيتور شرح خطأ هذه السياسات، وأكد على أن البديل هو إنشاء مدن جديدة أين توجد المياه الباطنية في الصحراء، حيث أن المدن والقرى قامت عبر التاريخ حول الماء، وقد فعل ذلك بعض الدول منها الولايات الأمريكية التي تحولت فيها بعض المناطق الصحراوية إلى جنات ومدن بهيجة عمرت بالسكان. وسنعود لاحقا كما ذكرنا في تقديم أفكار بديلة لحل مشكلة المياه عموما.
ومما يجدر الإشادة به تركيز الرئيس في قضية الأحزاب عن الوحدة الوطنية وبيان أول نوفمبر، وقد كان شعار “النوفمبرية، والنوفمبريون” هو أكثر ما تداولناه في حملتنا الانتخابية عام 2017، ثم جاء الحراك الوطني فجعل الشعار شعارا عاما لتيار عريض في الجزائر، غير أن الذي ننبه إليه أن بيان أول نوفمبر الذي دعا الرئيس إلى الالتفاف حوله يجب أن يكون منهجا عمليا يَظهر في سلوكنا الثقافي والاجتماعي والسياسي، وأن تكون مرجعيته كاملة بكل مفرداتها ومنها مفردات بنده الأول: “دولة جزائرية ديمقراطية شعبية اجتماعية ذات سيادة ضمن إطار المبادئ الإسلامية”، وحينما نتحدث عن البعد الاجتماعي فلا يعني ما فهمتُه مما ذهب إليه الرئيس أنه التوجه الاشتراكي للدولة، وإنما هو النمط الاقتصادي الذي يقوم على التوزيع العادل للثروة والتضامن والتراحم وما يتيح للمجتمع أن يساهم في ذلك وأن يشارك في خلق الثروة بالحرية الاقتصادية وإتاحة الفرصة للكسب الحلال والتنافس النزيه ومنع ممارسات الغش والفساد والمحسوبية التي تفضل جزائريا على جزائري وتؤدي إلى تركيز الثروة عند أشخاص وجهات قليلة، وأن يكون المجتمع المدني حرا مساهما في التنمية الاقتصادية والترقية الاجتماعية والتنوير الثقافي، مفيدا لا مستفيدا أو انتهازيا يدور حيث دار الحاكم بحثا عن المصالح الشخصية، كما أن بيان نوفمبر معناه الديمقراطية الحقة التي لا تتدخل فيها الدولة لترجيح كفة المنافسة السياسية والانتخابية لصالح حزب أو شخص أو تيار على حساب حزب أو شخص أو تيار بواسطة الانحياز الإداري والانتخابي وحتى في مجال التوظيف والترقيات وفق الانتماء كما هو جار.
ثم يكون الالتزام ببيان أول نوفمبر حين تكون المبادئ الإسلامية حاكمة حقا في قرارت الدولة وسياساتها وقوانينها ومناهجها التربوية وبرامجها الدينية والإعلامية، ولا يعني التمسك ببيان أول نوفمبر أن يُفرض على الأحزاب من قبل الدولة ولكن أن يكون الشعب هو الحاكم في من هو ممجد له فعلا وملتزم به حقا، وأن يظهر ذلك في الخطاب والسلوك السياسي للأحزاب الذي يقيّمُه المواطن بنفسه ويحكم عليه بصوته الانتخابي، ولو تحقق ذلك ستكون كل الأحزاب نوفمبرية بضغط الرأي العام وتوجهات الناخبين التي تسعى الأحزاب بطبعها لكسبها، فلا يكون تداول سلمي على السلطة إلا في إطار بيان أول نوفمبر كقاعدة جامعة لكل الجزائريين.
ومن المناسب هنا، في حديثنا عن الديمقراطية، التنبيه إلى ضرورة العمل على إزالة اللبس في العمل السياسي في من هو في السلطة ومن هو في المعارضة، ليكون رئيس الجمهورية المستقل عن الأحزاب حالة استثنائية وليست قاعدة سياسية خالدة كما هو الحال في الجزائر، لكي يظهر للجزائريين من الذي في الحكم ومن الذي في المعارضة فلا نجد رئيسا ينقد بصرامة، في اللقاء الأخير مع الصحافة، توجها عرفت به أحزاب الموالاة التي معه في الحكومة في مسألة إطلاق سراح رجال الأعمال المسجونين إذا أرجعوا ما نهبوه، فلا أحد من المتابعين يخفى عليه أن ذلك ظهر في خطاب حزبين من أحزاب الموالاة، كما أنه ليس من الديمقراطية أن يكون رئيس الجمهورية هنا هو النقابة كما قال في حديثه الأخير – حتى وإن كان قوله على سبيل المجاز – بل دوره أن يفسح المجال للحرية النقابية والمنافسة الحرة بين منظماتها في إطار القانون الواحد والممارسات الرسمية العادلة بين كل النقابات، وأن يستمع لمطالبها العادلة وأن تُحل المشاكل الاجتماعية والعمالية بالحوار القائم على المصداقية والنضالية والمصلحة الوطنية، وليس بتسخير النقابات لتكون سندا للحكام كأشخاص وتوجهات، وقد رأينا خطر ذلك، حين وُضع الاتحاد العام للعمال الجزائريين تحت إبط المسؤولين فأصبح جزءا أساسيا من العصابة، فلا نفع العمال ولا نفع البلد.
ومن جهة أخرى، فإن الالتزام ببيان أول نوفمبر معناه إعطاء الأولوية في السياسة الخارجية والعلاقات الدولية إلى العالم العربي والإسلامي، فيجب أن يظهر ذلك في خطاب المسؤولين، وفي التبادلات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والرياضية والفنية، والتعاون الدولي، وفي تطوير وترقية المنظمات الدولية الإقليمية العربية والإسلامية، وإقامة وتشجيع أي مبادرة تعاون بين الأشقاء، وفي التواصل الشعبي الحر والمفتوح بين المجتمعات في إطار السياحة والتجارة والأعمال والجامعات ومنظمات المجتمع المدني، وغير ذلك، وخصوصا ما يتعلق بالفضاء المغاربي ومشروع وحدة المغرب العربي، وهذا الذي أراده بيان أول نوفمبر في بنده الخارجي: “تحقيق وحدة شمال إفريقيا ضمن إطارها الطبيعي العربي الإسلامي”.
وغير هذا وذاك مجرد ادعاء نبالغ فيه في حديثنا عن بيان أول نوفمبر، ربما لإحراج بعضنا البعض لا غير.
وفي الأخير يجب الإشادة بالتوجهات الخارجية للرئيس في لقائه مع الصحافة في عموم ما قال، فالتدخل الأجنبي في النيجر خطر على الجزائر والمنطقة فعلا، وتشجيع الحوار الداخلي والحلول التوافقية النجيرية-النجيرية هي الرأي السديد، ومساعدة الجيران والأشقاء وعلى رأسها الجزائر مقدم على تدخل قوى بعيدة عن المنطقة، خصوصا القوى الاستعمارية الفرنسية التي نهبت خيرات النيجر وتركته أفقر بلد في العالم.
وبخصوص العلاقة مع فرنسا يجدر بنا أن نناقش ما قيل في اللقاء الصحفي، لِما الاستماتة في الرغبة في تمتين العلاقة بفرنسا والإعلان عن ذلك بإلحاح، في الوقت الذي يوجد مشكل معها في أبسط قواعد اللياقة والدبلوماسية وهو برنامج الزيارة إلى باريس؟! وبخصوص اللغات من المفيد توسيع تعلم اللغة الانجليزية والفكاك من هيمنة اللغة الفرنسية التي ليست لغة علم ولا لغة تُسعِفُ المتعامل الاقتصادي أو السائح أو الفنان أو الرياضي حيثما ذهب في مختلف دول العالم، وربما نفكر كذلك في تكثيف تعلم اللغة الصينية باعتبار توسع المدى الاقتصادي ومستقبلا المدى الجيوستراتيجي للصين.
ولكن أثناء ذلك يجب الانتباه أن الأمم تنهض بلغتها الوطنية، فلا يجب الاستمرار في تهميش اللغة العربية، التي تحاصَر في التعليم، وبالمناسبة ننبه السيد رئيس الجمهورية بأن الطب لا يُدرّس باللغة العربية، كما قال في لقائه الأخير، ولكن يدرس باللغة الفرنسية.
كما أن العربية تحاصر في كثير من الإدارات التي لا تزال لغتها الرسمية اللغة الفرنسية، والعجيب في الأمر كأننا في دول داخل دولة، بعض الوزارات التزمت بقانون تعميم استعمال اللغة العربية في إدارتها مشكورة مبرورة، ووزارات أخرى لا تزال تتعامل رسميا باللغة الفرنسية، كما أن إنقاذ شرف اللغة العربية مطلوب في المحيط الذي يدنسه مواطنون وليست الدولة، كما هو الشأن مثلا في لافتات المحلات في الشوارع التي أغلبها باللغة الفرنسية، وكل زائر أجنبي يتجول في الجزائر العاصمة والكثير من المدن بإمكانه أن يشعر بأنه في فرنسا وليس الجزائر لهيمنة اللغة الفرنسية في الشوارع.
نختم مناقشتنا الأفكار والأرقام التي أدلى بها السيد رئيس الجمهورية، بالتطرق إلى موضوع عضوية الجزائر في “البريكس” التي كثر حولها النقاش دون أي فهم لطبيعة البريكس وشروط العضوية فيه، فالبريكس منظمة اقتصادية دولية لاقتصاديات صاعدة وصناعية ومنتجة لها أرقام ومؤشرات عالية في الناتج الإجمالي الخام وغيره، تريد أن تواجه مجتمعة الهيمنة الاقتصادية الأمريكية، بتشجيع التبادل بينها لتقوية بعضها البعض ولإنهاء تسلط الدولار الأمريكي على التبادلات المالية العالمية، وقد كررت عدة مرات في هياكل الحركة، منذ بداية الحديث عن الموضوع، بأن الجزائر لا تستطيع أن تكون عضوا في البريكس، بسبب ضعف مؤشراتها الاقتصادية خاصة الناتج الإجمالي الخام، والقدرات التكنولوجية والإنتاجية الصناعية، فهي تستطيع أن تكون قريبة من البريكس ولكن لا تستطيع أن تنال العضوية قبل أن تصبح قوة اقتصادية صاعدة فعليا وليس بالادعاء الذي يقنع السذج في بلادنا.
وفي الأخير وبعد أن عبرنا عن رأينا في ما قاله السيد رئيس الجمهورية بكل صراحة ولكن في إطار الاحترام، سيكون هناك بدون أدنى شك من سينكر عليّ نقد ما يقوله الرئيس، بخلفيات متعددة، قد يفعلها البعض بدافع التزلف للرئيس وشيعته رغبة في المحافظة على المكاسب الشخصية أو السعي لها، وبعضهم من منطلق السذاجة وقلة الزاد ممن يعتبرون أن ما يقال في “نشرة الثامنة” شيء مقدس وأن نقد الخطاب الرسمي مخالف لـ”الوطنية” أو هو خيانة لصالح “قوى أجنبية”، أو بدافع الاتهام الجاهز أنني أريد إظهار نفسي فحسب للترشح للانتخابات الرئاسية، أو ربما بدافع المنافسة الحزبية أو الشخصية بكل أنواعها بأن يجب على الناس جميعا أن يتوقفوا عن الفعل لعل العاجز الكسول الرديئ يجد مجالا للظهور في الأرض الموات.
إن هذا كله لا يهمني أبدا ولا يحركني على الإطلاق، وأنا حقا لست سعيدا أن أجد نفسي مضطرا للتعبير عن رأيي المخالف لما أعتقده خطأ في التوجهات الرسمية، وإنما أفعل ذلك قياما بالواجب كمواطن من حقه وواجبه أن يعبر عن رأيه، وباعتباري شخصية عامة تحملت مسؤوليات كبيرة، ومن ينتظر رأيي كثيرون، بل أن ثمة من أصبح يبالغ في انتقادي عن كثرة اهتمامي بالوضع الدولي مؤخرا والسكوت عن الأوضاع المحلية، وهم محقون في ذلك.
ولا أريد أن أسكت كما سكت الكثيرون، إذ لا يوجد اليوم من ينقد رئيس الجمهورية، كبشر يصيب ويخطئ، ولا يُرجى إصلاح ولا تغيير ولا تحسين ولا تطوير ولا منع للفساد في المؤسسات الرسمية والمجتمعية دون تدافع، يقول الله تعالى: “ولو لا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض” ويقول المصطفى صلى الله عليه وسلم: (( الدين النصيحة، قيل لمن يا رسول الله، قال: لله ورسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم”، وهذا التدافع وإبداء النصيحة في السر حين يمكن ذلك وفي العلن حين يتوجب ذلك، هو الوضع الطبيعي في الحياة كمسلمين.
فقد كان من هم أفضل منا، رجالا ونساء، ينقدون من هم أفضل من حكامنا، علانية أمام الجمهور، وكذلك كمواطنين يكفل لهم الدستور التعبير عن نقد الرئيس، وكسياسيين هذا واجبهم حينما يكونون في المعارضة، أي غير معنيين بتسيير الشأن العام.
وكل ما نقوله هو آراء بشرية تحتمل الخطأ والصواب، ومن يبين لنا أخطاءنا نكون له من الشاكرين.
والحمد لله رب العالمين.
د. عبد الرزاق مقري