يوم الحج الأكبر يوم عظيم من أيام المسلمين أكمل الله به الدين بقوله: (( اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا ))، اكتمِلت بفرضه أركان الإسلام الخمسة، وأتم الله به النعمة بفتح مكة وإحباط الأصنام فيها ثم بتحريم دخولها والطواف بالكعبة لغير المسلمين، وإنهاء وثنياتهم وعريهم وفسادهم في هذا المكان الطاهر.
وبقي هذا اليوم يتكرر يشهده الحجاج بالملايين في أعظم تجمع بشري في الأرض، يأتونه من كل حدب وصوب، من كل أنحاء الدنيا، ويتابعه المسلمون في كل أصقاعها، يحضرونه بمشاعرهم ومشاركتهم الحاج في الذكر والطاعة والدعاء وصوم يوم عرفة، ويجعلون فرحته بعد الوقفة في يوم النحر فرحة المسلمين جميعا، اتباعا لسنة المصطفى بأن يكون ذلك اليوم يوم عيدهم الأكبر، يذكرون فيه طاعة أبيهم إبراهيم وابنه اسماعيل لربهما، ورحمة الله بهما، عليهما السلام، بأن تكون الطاعة بالتضحية بالأنعام لا بالإنسان، يكررون المشهد في كل حي وفي كل قرية وفي كل بلد في العالم، ليكون يوم العيد يوم أكل وشرب وفرح وسرور وصلة الأرحام والتزاور والتراحم، للأغنياء المضحين والفقراء المشاركين في الأكل من الأضاحي كحق واجب على المضحي، هو من يحمل عناء البحث عن الفقير المحتاج ليكرمه ويدخل السرور على قلبه، وكأن يوم عيد الأضحى يوم عالمي لسرور الإنسان والتواصل بين الناس ومحاربة الحرمان وسوء التغذية وتحريك سوق الماشية وتدوير المال بدل تكنيزه.
ثم إن ثمة حدث عظيم آخر من الفعاليات الكبيرة التي وقعت أيام الحج الأكبر لا نحتفل به وهو خطبة حجة الوداع، ويجدر بنا أن نفعل ذلك في كل بلاد المسلمين، منذ بداية شهر ذي الحجة، بتنظيم الملتقيات والندوات والبرامج الإذاعية والتلفزيونية، وفي المدارس والمساجد والمعاهد، لإعلاء شأن هذه الخطبة العظيمة وتبيان فوائدها للبشرية جمعاء وشرح مقصادها ونصوصها مجملة أو موضوعا موضوعا، مما فيها من القواعد والمعاني والتوجيهات والمواعظ المفيدة العظيمة.
لقد أنتج الغرب نصوصا في إقرار الحقوق والواجبات التي تنتظم بها حياة البشر فجعلوها عالمية، تُفرض في التشريعات الوطنية، وتدرج في المناهج التعليمية، وتنشر عبر الوسائل الإعلامية، وتفرض على كل الأمم أبعادُها الثقافية الغربية، ونحن لدينا من النصوص ما هو أقدم واقدس وأبلغ وأشمل منها ولا نحتفي بها ولا نستفيد منها ولا نفيد منها البشرية. وأعظم هذه النصوص الإسلامية نص خطبة حجة الوداع. وهي الخطبة التي كانت قي حجته عليه الصلاة والسلام الأولى والأخيرة في السنة العاشرة للهجرة، وسميت بخطبة الوداع لاحقا لأنها جاءت قرابة ثلاثة شهور قبل وفاته صلى الله عليه وسلم، وقد تميزت بأسلوبها ومضمونها، إذ كان الأسلوب مما يُدرّس اليوم ويُدرب عليه المتحدثون لجلب انتباه المستمع ( اسمعوا/ لعلي لا ألقاكم/اعقلوا قولي/ ألا هل بلغت/ فما أنتم قائلون/رفع السبابة وتكرار العبارات المفتاحية..)، وكان المضمون يتعلق بالأسس التي يستقيم عليها الاجتماع البشري بإعلان حرمة الدماء والأموال وقدسيتها كقدسية المكان والزمان الذي كان فيه في مكة المكرمة في الشهر الحرام في عرفة وأيام الحج، وبإعلاء شأن الأمانة التي لا تستقيم الحياة إلا بالالتزام بها، وتأكيد حرمة الربا الذي اتضح جليا في كل الأزمنة وفي زماننا بشكل خاص بأنه هو سبب فساد النظام الاقتصادي العالمي واضطراب الموازين الاجتماعية وانتشار الفقر والعوز والظلم والفساد في الأرض، وأحبط صلى الله عليه وسلم أسباب الضغائن والأحقاد بوضع دماء الجاهلية، ولكي تطمئن النفوس ويثق الناس في ما يلعن أعلن قاعدة العدل ولو على النفس والأهل بأن بدأ عليه الصلاة والسلام بوضع دم وربا أهله، كما شدد على الأخوة الإسلامية ومنع أخذ أحد شيئا من أحد من غير طيب نفس، وأنكر أشد الإنكار التقاتل وسفك الدماء، وأقر الوحدة الإنسانية بأصل الآدمية الواحد، وأن لا فرق بين الناس على أساس العرق، وأن الأكرم هو التقي، وخص المرأة بما لا يخص به غيرها في خطبته فأوصى بها خيرا وحذر من قهرها وبيّن واجبها تجاه زوجها في صيانة عرضه وغيبته، ودل على حقها عليه وأن الإنفاق واجب الزوج وأن يكون ذلك بالمعروف، وأحبط عليه الصلاة والسلام بخطبته ما كان يسلط على المرأة من الظلم في العشرة والميراث وبالوأد وقلة تقديرها ومنع حقوقها. وحذر من التلاعب بالمفاهيم والأزمنة لتحريم الحلال وتحليل الحرام، ومن اختلاط الأنساب بسبب العهر والتبني الباطل وادعاء نسب بغير حق، وأعلن أن أصل كل هداية وفلاح في كتاب الله فهو الحافظ من الضلال والضياع واضطراب وجهة الأمة ما كان التمسك به ثابتا دائما.
والله نسأله أن يحيي الأمة بهذه الخطبة العظيمة.