الشيخ أحمد بوساق: عن التعالي والتواضع

حضرت البارحة الدورة التربوية الدورية في بلدية درارية فسمعت موعظة عميقة النفع من الشيخ الفاضل والعالم الجليل أحمد بوساق المدني عن تواضع المصطفى عليه الصلاة والسلام وعن عظمة الله وضعف البشر ومصير المتكبرين. بدأ موعظته بقصة مؤثرة عن أمية بن أبي الصلت، وهو أحد زعماء ثقيف من كبار شعراء العرب، كان موحدا على الحنفية، عليما بالكتب السماوية، يسفه الشرك وعبادة الأصنام، تصف أشعاره الجنة والنار كأنه يقرأ من القرآن الكريم قبل نزوله.

غير أنه كان يتطلع أن يكون هو النبي المنتظر فلما بُعث النبي المصطفى صلى الله عليه وسلم لم يؤمن به ومات كافرا، وركز الشيخ بوساق كيف أن هذا الرجل “وعى” ولم “يزك” وفق ما روي في القصة التي روتها أخته الفارعة بعد إسلامها. فلم ينفعه وعيه إذ لم تزك نفسه.
وقد علق الشيخ بوساق طويلا عن هذا النوع من الأشخاص الذين يَعُدّون أنفسهم شيئا عظيما لأسباب لا وزن لها عند الله فلا يبالي بهم الله تعالى ويفنيهم كبرهم. و كيف يحتقر هؤلاء غيرهم ممن هم في ميزان الله أفضل منهم. ثم ذكر حديثا بديعا في هذا الشأن رواه البخاري عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ السَّاعِدِيِّ رضي الله عنه أَنَّهُ قَالَ : ” مَرَّ رَجُلٌ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَقَالَ لرَجُلٍ عِنْدَهُ جَالِسٍ : ( مَا رَأْيُكَ فِي هَذَا ؟ ) ، فَقَالَ : رَجُلٌ مِنْ أَشْرَافِ النَّاسِ ، هَذَا وَاللَّهِ حَرِيٌّ إِنْ خَطَبَ أَنْ يُنْكَحَ ، وَإِنْ شَفَعَ أَنْ يُشَفَّعَ، قَالَ: فَسَكَتَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ مَرَّ رَجُلٌ آخَرُ ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( مَا رَأْيُكَ فِي هَذَا ؟ ) ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ ، هَذَا رَجُلٌ مِنْ فُقَرَاءِ المُسْلِمِينَ ، هَذَا حَرِيٌّ إِنْ خَطَبَ أَنْ لاَ يُنْكَحَ ، وَإِنْ شَفَعَ أَنْ لاَ يُشَفَّعَ ، وَإِنْ قَالَ أَنْ لاَ يُسْمَعَ لِقَوْلِهِ ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : (هَذَا خَيْرٌ مِنْ مِلْءِ الأَرْضِ مِثْلَ هَذَا ) .
وذهب شيخنا يُفصّل في هذه المعاني الراقية من سيرة المصطفى صلى الله عليه وسلم انطلاقا من اعتراض المشركين عن بعثة النبي عليه الصلاة والسلام، ليس لأنه لا يليق بالرسالة ولكن لأنه ليس من علية القوم من مكة أو ثقيف وفق قوله تعالى: (( وقالوا لو لا أنزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم))، مع أن النبي صلى الله عليه وسلم، ذاته، لم يكن يتطلع يوما من الأيام أن يكون نبيا، وإنما فوجيء بالرسالة حتى ارتعدت فرائصه، وحين خيره الله تعالى بعد البعثة بين أن يكون ملكا نبيا أو عبدا رسولا فاختار أن يكون عبدا نبيا وفق الحديث الصحيح الذي رواه أحمد: (( جلس جبريلُ إلى النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فنظر إلى السماءِ فإذا ملَكٌ ينزلُ فقال جبريلُ هذا الملكُ ما نزل منذ خُلِق قبلَ الساعةِ فلما نزل قال يا محمدُ أرسَلَني إليك ربُّك أفملكًا نبيًّا أجعلَك أو عبدًا رسولًا قال جبريلُ تواضعْ لربِّك يا محمدُ قال بل عبدًا رسولًا)).
حدثنا الشيخ بوساق، بتأثر كبير، كيف كان كبّار قريش يستصغرون هذا الرجل الفقير الذي لم تكن له سابقة في ندوتهم ومجالسهم، فأصبح بعد ذلك أعظم خلق الله ويُذكر اسمه مقرونا باسمه في الآذان والصلوات بين دقيقة وأخرى في هذا الكون وأنشأ أمة عظيمة هي خير الأمم مترامية الأطراف في الدنيا كلها.

وفي كلام نافع مليئ بالشواهد التي يحسنها العلماء نصحنا الشيخ بوساق أن لا يكون في قلوبنا شيء أعظم من الله، لأن الله هو الأعظم الأجل الأكبر، وأنه هو الذي يخفض ويرفع، وأن يكون سندنا عاليا أعلى من كل الأشخاص والغايات و الألقاب وأن الذي ينفعنا في الدنيا والآخرة هو تواضعنا لله وعدم تعالينا على الناس وعدم احتقارنا لأي من خلقه، وأن سند الله الوحيد هو تقواه وفق الحديث الذي ذكره في سياق كلامه جزاه الله خيرا: ((قال – صلّى الله عليه وسلم – في فضيلة التقوى – إذا جمع الله الأوّلين والآخرين لميقات يوم معلوم ناداهم بصوت يسمع أقصاهم كما يسمع أدناهم يا أيها الناس إني قد أنصت لكم منذ خلقتكم إلى يومكم هذا فأنصتوا إلى اليوم إنما هي أعمالكم ترد عليكم أيها الناس إني جعلت نسباً وجعلتم نسباً فوضعتم نسبي ورفعتم نسبكم قلت إن أكرمكم عند الله أتقاكم وأبيتم إلا أن تقولوا فلان بن فلان وفلان أغنى من فلان فاليوم أضع نسبكم وأرفع نسبي ألا أين المتقون فيرفع للقوم لواء فيتبع القوم لواءهم إلى منازلهم فيدخلون الجنة بغير حساب)).
فيا لها من موعظة نافعة ونحن نستعد لشهر رمضان الفضيل حتى يعرف كل منا حقيقة ضعفه وهوانه على الله وافتقاره إليه سبحانه.. فلا يعتدي أحد على أحد ويشغل كل منا نفسه بما ينفعه عند ربه وما يعظّم شأنه عنده سبحانه، فمن كان الله معه – كما ذكر الشيخ بوساق – كان كل شيء معه. وأعظم ما قيل في هذا الشأن بعد كلام الله تعالى قول رسوله في حديث رواه مسلم: ((وما تواضع أحد لله إلا رفعه الله)).
أحببت أن أنقل بعض معاني الدورة التربوية لتعميم الفائدة.