2 – بيان السياسة العامة: عن السياسة

يوجد في عالم السياسة ساسة يربطون مواقفهم من الأنظمة المستبدة وفق الأحوال الذي تكون عليها تلك الأنظمة من قوة أو الضعف. فإن كانت الظروف مُهلكة لتلك الأنظمة يتشجع أولئك الساسة على محاربتها وربما انتهجوا نهجا متشددا ومتعجلا لتسريع نهايتها.

أما إذا كانت الرياح متجهة لصالح أشرعة المستبدين، خفظوا أصواتهم حتى تكاد تنسى، ومنهم من يتوارى ليعيش حياته بعيدا عن السياسة، ومنهم من يلتحق بالحكام الأقوياء تائبا، وربما ذليلا، وقليل منهم من يصمد ويصبر فيؤدي الذي عليه في مواجهة الفساد والفشل والاستبداد، ولو بدون نتيجة تذكر، إخلاصا لله تعالى إن كان مبعثه دينيا، أو إشفاقا على وطنه إن كان الدافع وطنيا، أو رجولة ومروءة من أجل المبدء، وقد يكون الدافع ذلك كله.
أين النقاش السياسي الذي كان يميز الحياة السياسية في بلادنا رغم كل الظروف الصعبة التي مرت بها البلاد في مراحل عدة سابقة؟ هل يُعقل أن تناقش السياسة العامة للحكومة في البرلمان فلا يوجد في الساحة ساسة كبار ومتخصصون متميزون يكشفون زيف ادعاء المسؤولين؟ سوى أصوات قليلة مبحوحة محاصرة، منها قادة حركة مجتمع السلم. هل صار الساسة في داخل البلاد، الذين ادعوا معارضة النظام السياسي من قبل، ينتظرون حتى يتحرك الشعب لكي يتكلموا؟ هل ينتظرون أمواج التغيير تأتي وحدها لكي يركبوها؟
لا تجود الأقدار دائما بإظهار أسرارها سريعا، قد يحدث ذلك فيُفضَح الباطلُ على العجل ولا تطول معاناة محاربيه، وقد يطول إظهار الحق وابطال الباطل فينعم الفاسدون بفسادهم دهرا طويلا، ويموت الأبطال دون التنعم بثمار كفاحهم، ولكن مهما طال الزمن ستُنصِف الأقدارُ الرجالَ، سواء الذين قضوا نحبهم أو الذين بقوا ثابتين ينتظرون ولم يبدلوا تبديلا. وهل يضيعُ أجرُ المحسنين عند الله تعالى؟ وهل ظَلم التاريخُ صانعيه يوما، فلم يضع لكل فاعل فيه وسما، بالسوء أو المجد؟
إن الله لا يضيع أجر العاملين يوم القيامة فيعطي لكلٍّ حسب جهده ويزيد من يشاء برحمته، ولكن يوزّع في كل زمن ولكل واحد بمقادير مختلفة لا يعلم حكمتها إلا هو سبحانه، ولكنها بكل تأكيد عادلة في حق صاحبها بما يَصلُح له و ما يُصلِحه. فثمة من المصلحين من يأتي بهم الله في مرحلة لا يمكن فيها تحقيق شيء سوى وقف الانهيار في أممهم، فينجحون في ذلك أيما نجاح، ولكن قليل من ينتبه إلى عظيم صنعهم. ومنهم من يجيء في مرحلة لا تتحمل سوى التطوير وإضافة لبنات أساسية لما سبق، فيؤدون المهمة بكفاءة ويتسببون في تحسين أوضاع بلدانهم ولكن لا يُكتب على أيديهم الحسم الذي يذكره الناس جميعا، وهناك من يختصهم الله بالحسم في آخر مسيرة كفاح لم يحضروا جل ما سبق منها، فيدخلون التاريخ من بابه الواسع إذ يكون الإنجاز نهائيا مدويا يشهده جميع الناس ويشهدون عليه.
إن الأمثلة في التاريخ على تنوع هذه الأرزاق المُقدّرة كثيرة، من أهمها الحسم الذي صنعه صلاح الدين الأيوبي ضمن مسار لم يطلقه هو، بل كان رائده الأول رجل أفضل منه عند العارفين، هو نور الدين زنكي، ولكن عموم الناس لا يذكرون إلا صلاح الدين الأيوبي، وذلك فضل الله في الدنيا يعطيه من يشاء.
ولو أردنا أن نسقط هذه الحقيقة السننية على تاريخ كفاح المصلحين في الجزائر والمناضلين من أجل تخليصها من الفساد والاستبداد ولغرض تطورها ونهضتها لوجدنا رجالا كُثرا على هذا المسار لا يعرف الناسُ أغلبَهم. منهم من رفض الانحراف من أول يوم حين تم فُرض الاستبداد بعد الاستعمار و تم إمضاء المناهج والتوجهات المستوردة المناقضة لعهد الشهداء وبيان أول نوفمبر، و التي أغرقت البلد في التخلف وضياع فرص الإقلاع والنهوض، ومنهم من كان له أثر في تأليف القادة وتأسيس المنظمات والأحزاب المناضلة حتى صار تأثيرهم ملموسا وإنجازاتهم شاهدة، ولكن لا أحد منهم حَسَم الأمر، فرغم كل التضحيات لا يزال نفس النظام الحاكم منذ الاستقلال يكرر نفسه ويكرر إخفاقاته، تتكرر أمامه الفرص ويكرر إهدارها بلا هوادة.
لقد كان النظام السياسي في شدة وهلع بسبب استدامة تراجع أسعار البترول واقتراب نضوب احتياطي الصرف بما جعله يشعر بوشوك حالة الإفلاس فأخذ يؤجلها بطباعة النقود والتقليص الحاد للواردات، ووقف المشاريع والتفكير في التراجع عن سياسة الدعم المعممة، فإذا به تنزل عليه فرصة من السماء سببها دماءٌ تسيل وأرواحٌ تزهق في أرض بعيدة تشهد حربا طاحنة، تبدو مزمنة، تسببت في ارتفاع أسعار البترول.
إن الأنظمة المستبدة تسكن الدول التي تحكمها كما يسكن الجان الجسد حتى يصبح انهيارها هو انهيار الدولة ذاتها، ولذلك، بقدر ما حزنا على الشعوب التي تأكلها الحرب بين روسيا وأوكرانيا، سعدنا بالنّفَس الجديد الذي أُعطِي لبلدنا. غير أن نجاة البلدان ليس بالخيرات التي تنعم بها وإنما برشاد حكامها، فكم من دول غنية قوية جنى عليها حكامها رغم ثرائها، وقد بيّن العلامة عبد الرحمن بن خلدون ذلك بحديثه عن أطوار الدول وكيف تنهض بالتجرد والبسالة والتعفف وكيف تسقط بالفساد والظلم والترف، ومن أسباب سقوطها انشغال الحكام بنعيم خيراتها بدل خدمتها. وقد صدق مؤرخ الحضارات توينبي كذلك حين قال بأن الحضارات لا تسقط بسبب عدوان خارجي ولكنها تنهار من الداخل وقد أوجز بقوله: “الدول لا تموت ولكنها تنتحر”.
إننا حينما نقرأ ما ورد في بيان السياسة العامة وما نسمعه من المسؤولين في مجال مكتسبات الحريات والسياسة والديمقراطية والمؤسسات نشعر وكأنهم يتكلمون عن بلد آخر.
بعد أن تحدثنا عن الشأن الاقتصادي في المقال السابق لست أدري من أين أبدأ لأبين عكس ما يدعون في الشأن السياسي: هل من حالة اللاستقرار السياسي من داخل النظام نفسه، أم من ضعف المؤسسات، أم عن أحادية الرأي الذي وصلت إليه كل المؤسسات الإعلامية، أم عن إفساد العمل السياسي برمته، أم عن نهج التحكم والاستغلال الجاري لمنظمات المجتمع المدني، أم عن حالة الفساد المهيكل، أم عن موقع بلدنا ضمن التحولات الدولية القائمة.

يتبع..