فلسفة الزبر الانتخابي وسياسة كسر الرجال

” أنا شاب من شباب حركة مجتمع السلم  بقيت أناضل 17 سنة داخل هذا الحزب السياسي المرخص، أحسب نفسي مواطنا صالحا أقوم بواجباتي المهنية والأسرية والاجتماعية على أحسن حال ما استطعت، لم أقترف في حياتي مخالفة وعشت حياة عادية كأي مواطن جزائري محترم، لم تقع لي مشكلة مع الدولة سوى مرة واحدة كتبت منشورا عن الرئيس بوتفليقة

أيام مجده فاستدعاني الأمن وسوّد لي محضرا دون أن  أُقدم للعدالة، كنت منتخبا محليا في المجلس الشعبي الولائي وشاركت في الحراك الشعبي بفاعلية دون الدخول في الاستقطاب الذي أفسده لاحقا. بسبب نشاطي وفاعليتي في المجلس الشعبي الولائي قدمني أعضاء الحركة في بلديتي للترشح في المجلس الشعبي البلدي فرحبت بذلك، ظنا مني بأن المرحلة مرحلة الشباب، كما يقول دائما السيد رئيس الجمهورية، وأن حركة مجتمع السلم تريد كذلك تجديد منتخبيها بفئات شبابية مثلي … ولكن فوجئت بمنعي من الترشح من طرف السلطة بسبب أني أهدد الأمن العام!”

 صُعقت لهذا القرار، ليس لأنني منعت من الترشح في هذه الانتخابات ولكن بسبب هذه التهمة الباطلة التي ستفسد سمعتي وتؤثر على حياتي المهنية وعلاقاتي الاجتماعية، كما أنها قد تعدم مستقبلي السياسي .. فحسبي الله ونعم الوكيل “

هذه شكوى مؤلمة، محزنة، مفزعة من شاب تعرض للزبر في هذه الانتخابات. وحالات كسر الرجال مثل هذه أصبحت لا تحصى ولا تعد، وأنا صرت أفكر حقيقة لتأليف كتاب بشأنها سيبقى شهادة تلعن هؤلاء الذين ظلموا الرجال وكسروهم، وتلاحقهم ولو بعد حين.

ظننا أنه لا أشنع مما حصل في الانتخابات التشريعية السابقة فإذا بالذي يحدث في الانتخابات المحلية أفدح وأفظع، وتجاوز كل المعقول.  شكاوى وشهادات كثيرة سمعتها  هذه الأيام  من رجال أفاضل آخرين. ومن ذلك اتهام دكتور يشتغل في أعماله  مع جهات نظامية سيادية وزُبر بحجة العلاقة مع المال الفاسد، وشاب كشّاف فقير سمع بإسقاطه من القائمة فجاء لا يسأل إلا عن شيء واحد. لماذا؟ فلما قيل له: “العلاقة بالمال الفاسد!” انهار –  ولعله بكى –  ويقول والله إني لعاجز على شراء الحفّاظات والحليب لابني الرضيع فكيف اتهم بالمال الفاسد؟! وشخص آخر كان من شباب الحراك مع شباب آخرين، فترشح هو مع الحركة وأصدقاؤه ترشحوا مع حزب من أحزاب السلطة، فأسقط هو بحجة تهديد الأمن العام وأبقوا على أصدقائه الذين ترشحوا في حزب الموالاة، وشخص اتهموه بكل أنواع الفساد ظلما وزورا فقال: ” ولكن لماذا لم يلقوا علي القبض؟ لماذا لم يقدموني للعدالة؟ كيف أصبح بين عشية وضحاها فاسدا؟ أين هي العدالة؟ أين هي دولة القانون؟ لماذا يصبح المرء متهما لما يترشح للانتخابات؟ وأخذ يدعو على من ظلمه حتى علمت بأنهم والله هالكون.

علاوة على منتخبين محليين أخذوا البراءة في أحكام العدالة في قضايا التسيير ومع ذلك أسقطوهم بذات القضايا.  ومنتخبون آخرون كانوا طوال عهدتهم السابقة محل تقدير واحترام عند الشعب وعند السلطات المحلية، أبعِدوا رغم ما أظهروه من  الكفاءة والنزاهة،  ولفقوا لهم من أجل ذلك قبليا قضايا في العدالة ليس عليهم فيها أي حكم فأسقطوهم بها.

لقد أصبحت الانتخابات عملية شاقة صعبة خطيرة، حتى أصبح لدينا اليقين بأن النظام السياسي يريد إما كسرنا بها أو إخراجنا منها فنقرر عدم المشاركة فيها بأنفسنا.

وبالنسبة للتوقيعات التي كانت في عهد بوتفليقة من أكبر عمليات الغش والتزوير فلا يدري أحد من جمع التوقيعات ومن لم يجمع، كيف يُعقل أن يُطلب من الجزائريين أن يصوتوا مرتين، المرة الأولى علانية بالإمضاء وبصمة الأصبع في التوقيعات، والثانية في المعازل في يوم الانتخاب الرسمي، والأعداد المطلوبة من التوقيعات أكثر من عدد الجزائريين الذين يصوتون. وحينما تنجح الحركة في رفع التحدي وتحقق المطلوب تُسقط التوقيعات بأساليب عدة، من أكثرها افتضاحا أن تسقط أعداد كبيرة بحجة عدم تسجيل أصحابها في القوائم الانتخابية وبين أيديهم بطاقات الناخب خاصتهم، وقد شاركوا في كل الانتخابات السابقة، أو أن يَمنعوا ممثلينا من السبق في وضع التوقيعات حتى تأتي قوائم أحزابهم و”مستقليهم” هي الأولى في الإيداع ثم يقال لنا هناك إمضاءات مكررة ومن يأتي الأخير هو من تسقط إمضاءاته….

إنها والله حرب باردة حقيقية! … بوسائل غير متكافئة!

ومن جهة أخرى يحاول النظام السياسي التغطية على أهدافه الاقصائية قبل يوم الانتخابات بالقول بأنه أسقط من قوائم أحزابه و” مستقليه” أعدادا كبيرة من المرشحين المتهمين بالفساد. أؤكد أولا أن مرشحينا الذين نحتج عليهم  ليسو فاسدين وإنما المقصود بإسقاطهم هو إضعاف القوة التنافسية لقوائمنا، وبعد ذلك أجزم أن قوائم أحزابه و”مستقليه” لا خوف عليها لأنه سيتكفل بنجاحها بالتزوير يوم الانتخاب، كما هي العادة،  مهما كان المرشحين فيها، وإنما المتضرر بالزبر هو حركة مجتمع السلم التي لا قوة لها بعد الله إلا عناصرها القوية التي تقدمها لحكم الشعب، فإن أسقطوها تكون الضربة قاصمة.

تأملت في موضوع الزبر العام الذي أفسد العملية الانتخابية والسياسية كما لم يكن في أي مرحلة من المراحل السابقة في التاريخ السياسي الجزائري فتأكد لدي بأن النظام السياسي الفعلي في الجزائر نادم على التعددية وهو يريد القضاء عليها بالتدرج بطرق ذكية. ربما يكون هدفه المبطن  أن يجعل الأحزاب كلها، في المحصلة، حزبا واحدا هو حزب الدولة، بل بالأحرى أجهزة من أجهزة الدولة. ومن رفض ذلك يروض أو يكسر كما يفعل بنا في حركة مجتمع السلم.

والإبداع الماكر الغادر الجديد الذي توصلوا إليه يتمثل في  أن يحسموا الأمر قبل يوم الانتخابات فيضمنوا الأغلبية في المجالس دون أي خوف من المفاجأة في الانتخابات، سواء ممن يعارضهم أو حتى ممن يسير في فلكهم. إنهم  يتوجهون إلى أن يصنعوا القوائم كلها بقراراتهم لا بقرارات الأحزاب، من خلال مادة قانونية ظالمة، هي المادة 184 من القانون العضوي للانتخابات المناقضة لكل الأعراف الدستورية في العالم والمخالفة لكل مواثيق حقوق الإنسان المتعارف عليها في الشرائع السماوية والأرضية، هذه المادة القانونية  التي صار يُظلم بواسطتها الناس وتُفسد حياتهم ويتهمون بلا بينة ولا جريرة ولا حكم قضائي.

وبالعودة  لزبر العديد من الأسماء في قوائم أحزابهم و”مستقليهم” فإن التأمل في الموضوع يوصل إلى أن ذلك يدخل ضمن  الاستراتيجية التالية:

  • من كان فاسدا معلوم الفساد مبغوضا عليه من الشعب لا يسمحون له بالترشح في قوائم أحزابهم حتى لا يحرجهم وحتى لا يضطروا للتزوير له تزويرا يُكشف أمره.
  • يعملون على إسقاط أي شخص له شعبية كبيرة ومعروف بالنزاهة والكفاءة من قوائمنا لأي سبب تافه، وإن لم يجدوا شيئا يستندون عليه يخلقون له سببا.
  • إذا ترشح في قوائم أحزابهم و” مستقليهم” شخص معروف بمعارضته للنظام ومن الوجوه البارزة في الحراك الشعبي، ويقدّرون بأنه يمكن إدماجه والسيطرة عليه،  يقبلونه ويرحبون به ولا يسقطونه.
  • إذا ترشح في قوائمنا شخص معروف بمعارضته للنظام ومن الوجوه البارزة في الحراك الشعبي يسقطونه بحجة تهديد الأمن العام.
  • وإن لم تكف كل هذه السياسات يحققون ما يريدون بالتزوير الانتخابي.

يتأكد من خلال هذه الاستراتيجية بأن النظام السياسي يريد القضاء على التعددية الحزبية، وقد أصبح عمليا هو من يقوم بعملية الترشيح. وأكاد أجزم أنه يأمل لو يعود للحزب الواحد كما كان، و ربما يكون مولعا بنمط الحزب الواحد الصيني الذي لا يعرفون عن خصوصيته سوى شكله. سأعود لأشرح في مقال لاحق الفروقات التاريخية والمعطيات الاجتماعية والأبعاد السياسية  التي لا تسمح لهم أبدا باعتماد نظام الحزب الواحد من جديد، ولكن أقول لهذا النظام بوضوح بأن مشكلته مع الشعب وليس مع الأحزاب، وأن تترسه بمنطق القوة والتحكم يعميه عن رؤية الحقيقية، وأنه سيأتي اليوم الذي يتضح له ذلك مجددا … وعندئذ “ولات حين مناص”.

دعونا في آخر هذا المقال لا نهتم بالتيه الذي يسير فيه هذا النظام السياسي، لأختم بمواساة ذاك الشاب المظلوم وعن طريقه كل المظلومين في قوائمنا لأقول له: ” لا تحزن فإن الشيخ محفوظ نفسه أسقطوا اسمه من قائمة المرشحين، ولفقوا له تهمة باطلة وأنهوا مشواره السياسي إلى الأبد بقرارهم الظالم رغم كل الذي قدمه للبلد والدولة ولاستقرار المجتمع الجزائري،  فكيف تطمح يا بني أن يرحموك من بعده وأنت تسير على دربه، وعندك في الحركة قادة أفنوا أعمارهم في النضال لم يحققوا ما يطمحون إليه في الشأن السياسي ويريد النظام السياسي قتلهم سياسيا كما فعلوا مع الشيخ محفوظ رحمه الله  ولا يزال هؤلاء القادة  ثابتين لم يبدلوا ولم يغيروا.

يا بني! إن رجال هذا النظام السياسي توارثوا عقلية التسلط والفكر الأحادي،  فهم يعادون الأحزاب ولا يعتبرونها جزء من الدولة، ومن برز من الشخصيات الحزبية مثلك يحاولون إدماجه وإلحاقه بهم فإن اختار الوفاء لحزبه ومؤسساته وقيادته يعملون على كسره، إن هؤلاء يتبعون منهجا استبداديا ظالما يرتكز على القوة.

إنهم، يا بني يعانون من أزمة الشرعية الديمقراطية، وأزمة شرعية الإنجاز،  وأزمة شرعية الأخلاق، فيُعوِّضون عجزهم ذلك بمنطق القوة والتحكم … فاصبر إنك شاب وإن غدا لناظره قريب!”

وللذين سيقولون لنا لماذا إذن تشاركون في الانتخابات حين يقرأون مقالي هذا،  نقول لهم: نحن على خطى رجال الحركة الوطنية، نحن على نهح مصطفى بن بولعيد الذي كان يترشح في انتخابات المجالس المحلية التي كانت تزورها الإدارة الاستعمارية، وبعد كل تزوير يعاودون المشاركة، ونحن على خطى زيغود يوسف الذي حينما أكتشف الاستعمار نضاله من أجل استقلال الجزائر قبيل اندلاع الثورة نُشر اسمه في وسائل الإعلام كسجين تحت صفة ” عضو مجلس بلدي”.

إن طرائقنا السلمية لتحقيق التغيير في الجزائر كثيرة، وما المشاركة في الانتخابات إلا واحدة منها، نركز عليها حين وقتها وحين تمثل هوامش حقيقية لصالح البلد، ونشتغل بغيرها حين لا يكون وقتها وحين تصبح افرازاتها لا تمثل لنا أي هامش للمساهمة في الإصلاح وخدمة البلد.