1 ـ الانتقال الممنوح: وهو الانتقال الذي تمنحه السلطة الحاكمة، وقد يكون هذا الانتقال مفيدا حينما يكون قادة هذه السلطة وطنيين مدركين لمخاطر استمرار الوضع الراهن. وبالرغم من أن هذا الانتقال جرب في بعض الدول ونجح ولكنه نادر، وأغلب هذه التجارب كانت فاشلة ومنها تجربة نظام الحكم الجزائري الذي يدعو له دائما بعد أن يحقق ما يريد في منع إرادة الجماهير والسيطرة على السلطة إذ يدعو إلى مرحلة انتقالية تيدم فيها إصلاحات تزيينية ويحاول أن يستوعب من خلالها ما يمكن استيعابه من المعارضه بغرض تشتيتها وضمان استمرار الوضع القائم وهي حالات جربتها السلطة الحاكمة ثلاث مرات على الأقل منذ انفجار الأزمة في بداية التسعينيات، ورغم التضحيات الكبيرة لا تزال الأزمة مستمرة سياسيا واقتصاديا واجتماعيا. وقد كان ثمة مبرران لقبول هذا النوع من الانتقال في الجزائر في المرحلة السابقة:
المبرر الأول: وهو أن الأزمة الجزائرية كانت في بدايتها دموية تهدد كيان الدولة ووحدة البلد ولا يستطيع أي وطني صادق يخاف الله تعالى أن يتخلف عن المساهمة في إطفاء الحريق ولو على حساب حزبه وشخصه وجماعته ومهما كانت الجهة التي تحكم البلد، ويدخل هذا في فقه الأولويات وقاعدة درء المفاسد أولى من جلب المصالح.
المبرر الثاني: أنها كانت تجربة أولى ولم يكن الساسة والمفكرون والعلماء وقادة الأحزاب ومختلف النخب يعلمون بأن نظام الحكم سيستغل وطنيتهم وسيحتال عليهم ليفرض وجوده كمشروع أشخاص منتفعين وليس مشروع وطن، وانه سيسخر مؤسسات الدولة بعد معافاتها للتغلب على الجميع بالتزوير واستعمال الفساد بل والاستعانة بالأجنبي كذلك بطرق ملتوية.
لقد تفاوتت فترة الانتباه والاستفاقة بين الأشخاص والأحزاب من مختلف التيارات بأن النظام السياسي الجزائري مخادع وأن الأزمات الجديدة ليست الإرهاب ولا التطرف الديني، غير أن اليوم مجمل الطبقة سياسية انتبهت وعلمت بأن المخاطر الكبرى الجديدة التي تهدد البلد هي من داخل نظام الحكم وليس من خارجه وان هذا النظام لا يمكن أن يفلح في إقناع الأحزاب من جديد بفكرة الانتقال الممنوح بعد التجربة ونهاية الصراع الدموي مهما كانت المظاهر التي تُصنع لتخويف الناس وترهيبهم وتخوينهم.
2 ـ الانتقال المفروض: وهو الانتقال الذي يُفرض على السلطة القائمة، وتكون هذه الحالة وفق طريقتين :
أ – طريقة الانقلاب العسكري: وهي الطريقة التي ابتليت بها كثير من البلدان العربية وبلدان أمريكا الجنوبية وبلدان أفريقيا وفي العديد من الدول الأخرى، وعادة ما تستعمل الديموقراطية زورا من طرف القوى الانقلابية فتجد البلدان التي وقع فيها الانقلاب في وضع أسوء مما كانت عليه، ولا نجد إلا حالات نادرة يسلم فيها العسكريون السلطة للمدنيين ويقع تحول ديمقراطي حقيقي.
ب ـ طريقة الثورات والانتفاضات الشعبية: وهي حالات عديدة في التاريخ أبرزها الثورة الفرنسية، ووقعت في العصر الحديث في كثير من الدول خصوصا في أوروبا الشرقية ثم في البلدان العربية ضمن ما سمي بالربيع العربي. ويمكن تقسيم هذه الثورات إلى حالتين:
ـ ثورات شعبية يواجهها العسكر ومختلف المؤسسات الأمنية فيصلون إلى قمعها وإخمادها وينجر عنها مزيد من التسلط والفساد والقمع الذي قد يستمر سنوات طويلة ويستغرق جيلا بكامله على الأقل. وقد تعجز القوة الأمنية في إخماد الثورة ولا تنجح الثورة في تحقيق مبتغاها فتنزلق الأمور إلى حرب أهلية تتسبب في دمار كبير يطال الجميع، وتتاح الفرصة عندئذ لتدخلات أجنبية عديدة، وأبرز حالة لهذا المثل في العصر الحديث الحالة السورية.
ـ ثورات شعبية تسندها القِوى العسكرية، أو على الأقل لا تعارضها، فتحقق نجاحا سريعا وأحسن مثل لهذه الحالة النموذج التونسي، وقد تتصرف القوى العسكرية بدهاء فتقلب المعادلة ضد الثوار بعد إيهامهم بالمساندة مثلما حدث بعد ثورة 25 يناير في مصر التي ساندها العسكر ثم استعملوها لإعادة ترتيب شؤونهم مستغلين أخطاء كثيرة وقع فيها الثوار من مختلف التيارات، وهي حالة تشبه إلى حد كبير الثورة الفرنسية التي ساندها جزء كبير من العسكر ثم سرقوا الثورة بقيادة الجنرال نابليون.
وفي حالة الثورات الشعبية هناك عامل أساسي يجب استحضاره وهو مدى توفر القيادة المجتمعية التي تؤطر الثورة، حيث يكون نجاح الثورة الشعبية صعبا جدا في حالة عدم توفر قيادة قوية وحاضرة في الميدان. ويتضح هذا جليا في الثورة السورية والثورة الليبية حيث يتشابه البلدان بوجود نظامين قمعين سابقين للثورة دمرا كل فرصة لتشكيل نخب وقيادات مجتمعية وسياسية وفكرية على الأرض مما جعل الوضع في هاذين البلدين يكون أصعب من الدول العربية الأخرى، وذلك خلافا لمصر التي استطاعت القيادات المجتمعية والسياسية والفكرية الموجودة فيها على الأرض في كل المحافظات أن تحفظ مصر من مخاطر الانزلاق بعد الانقلاب العسكري، ولو لم يكن ثمة هذا التأطير القيادي الذي منع استعمال العنف رغم مخططات الجهات الأمنية لدفعهم واتهامهم بذلك لاشتعل الوضع في مصر كلها ولكانت الكلمة لأكثر الجهات تطرفا من الجانبين.
وحينما ننظر إلى خطورة هذا النمط من التحول الديمقراطي على الاستقرار وصعوبة توفر شروط نجاحه، وارتفاع احتمال حدوث عكس مقاصد التغيير والإصلاح والانجراف إلى الفتنة العامة( هذه هي مبررات مدرسة الصبر في الفقه الإسلامي)، وبالنظر للتجربة الجزائرية التي أدت إلى جرائم كبيرة ومقتل أكثر من 200.000 جزائري وأرقام هائلة من الخسائر المادية ثم ما انجر عن ذلك من استغلال الأزمة لمزيد من التسلط وإخفاء الفساد والفشل والضعف الشديد أمام ابتزاز القوى الاستعمارية الأجنبية واستنزافها لمقدراتنا خصوصا في مجال الطاقة، فإن خيار الشارع غير مقبول والتحلي بالمسؤولية أثناء العمل السياسي إزاء هذه المخاطر أمر مفروض على الجميع مع ضرورة النضال المستمر لكي يُسمح بالتعبير السلمي القانوني عبر المسيرات السلمية التي تقوم الأجهزة الأمنية ذاتها بتأطيرها كما هو الحال في الدول الديمقراطية، بدل قمعها كما يحدث عندنا وفي كثير من الدول المتخلفة.
3 ـ الانتقال المتفاوض عليه
قبل الحديث عن هذا النوع الثالث نذكر بأن الحديث عن الانتقال الديمقراطي يتعلق بالدول التي لا تتوفر فيها ديمقراطية بسبب غياب المؤسسات الديمقراطية أصلا أو بوجودها وجودا شكليا عن طريق التعيين أو التزوير الانتخابي، وعادة ما يكون الحديث عن الانتقال الديمقراطي حينما تتسلط الأنظمة الحاكمة وتفرض وجودها بالقوة والتحايل ولكنها لاتستطيع تحقيق الرضا الشعبي العام فتصبح فاقدة للثقة بنفسها وتكون في حالة هلع مستمر من أي توتر سي اسي أو اجتماعي مهما كان سبببه ويكون البلد كله في هشاشة تنذر بانهيارات فجائية أو على مدى زمني محتوم. وقد تجرب المجتمعات التي تبتلى بهذا النوع من الأنظمة عدة أشكال وأنماط من أنماط الانتقال الديمقراطي، ويحدث أن تنتقل التجربة من نمط الانتقال المفروض ثم الانتقال الممنوح كما هو حال الجزائر، وبعد خيبة الأمل في هاذين التجربتين يُطرح للنقاش نمط الانتقال المتفاوض عليه. وشروط نجاح الانتقال المتفاوض عليه مرتبط بالأوضاع الاقتصادية والاجتماعية وقوة المعارضة ومستوى وعي النخبة الحاكمة وشعورها بضرورية التغيير ومدى توفر أدوات الضغط الفعالة عليها.
الانتقال المتفاوض عليه هو الانتقال الذي يتم بالاتفاق المشترك بين المعارضة والسلطة، يتم في إطاره التوافق على مشروع سياسي انتقالي وإدارة انتقالية يتم الوصول إليهما بالتفاوض يكون أساسها الإرادة الشعبية. ويحمل هذا الانتقال ثلاثة أشكال.
الشكل الأول: تمر السلطة الحاكمة بمرحلة صعبة غالبا ما تكون أسبابها اقتصادية اجتماعية وفي بعض الأحيان أمنية، وتكون في مواجهة هذه السلطة معارضة قوية وواعية تحسن التعامل مع المرحلة، فتدرك السلطة بأنها لن تقدر على مواجهة الوضع وحدها فتعرض على المعارضة مرحلة انتقالية حقيقية تتنازل فيها السلطة عن السيطرة على مقاليد الحكم وحدها وعن تمسكها برؤيتها السياسية الأحادية، وتتنازل المعارضة بأن تقبل التعامل مع السلطة الحاكمة على أساس مشروع انتقالي متفاوض عليه وإدارة انتقالية متفق عليها. وهذه الحالة تخص الدول والمجتمعات المتقدمة، وتتطلب شخصيات سياسية في السلطة وفي المعارضة وطنية وواعية ومتحضرة. وفرص نجاح هذا النوع من الانتقال كبيرة جدا وتكون مخرجاته مفيدة للجميع.
الشكل الثاني: تمر السلطة الحاكمة بمرحلة صعبة من حيث الوضع الاقتصادي والاجتماعي على المدى الآني أو القريب والمتوسط، ومن حيث الشرعية، ومن حيث الانسجام بين مكوناتها، ومن حيث التطورات الأمنية والجيوسياسية، ويكون في مواجهتها مجتمع متذمر وذو مطالب اجتماعية متصاعدة لم تصبح السلطات قادرة على تلبيتها ومعارضة قوية غير قابلة للانخراط في مشاريع النظام الحاكم بكل مكوناته وعازمة على التغيير ومتجاوزة لطموحاتها الجزبية والشخصية. ويعرض كل من السلطة والمعارضة مشاريع للتغيير والإصلاح مختلفة بينها وفي بعض الأحيان متطابقة ولكن يفرقها فقدان الثقة بين أصحابها، وتبقى هذه المشاريع متصارعة بينها عبر فترة من الزمن، يعمل نظام الحكم من جهته على تفتيت المعارضة وكسر مشاريعها وتبني بعضها بغرض تمييعها، وتعمل المعارضة على التكتل بينها والتوجه للرأي العام لفرض مشاريعها، وتبقى تطورات الوضع في مختلف جوانبه ومدى تأثيرها على السكان هو الحاكم بينهما، ويكون لصمود الأطراف وقدرتها على تفعيل مبادراتها وتسويقها للرأي العام وشرحها للمواطنين أثر كبير على مصير كل منها. وبعد مرحلة من الشد والجذب والضغط المتبادل وظهور بعض مظاهر تفاقم الأزمات المتوقعة في البلاد تتوصل السلطة والمعارضة إلى الاتفاق بينها على ضرورة الحوار الجاد والانتقال الديموقراطي المتفاوض عليه وإنقاذ البلد من الانهيار المتوقع. وبقدر ما يكون الاتفاق بعيدا عن لحظة هذا الانهيار المتوقع يكون الاتفاق ذا جدوى من حيث فرص نجاحه ويكون نافعا ومفيدا للجميع.
الشكل الثالث: تتحكم السلطة الحاكمة في الأوضاع السياسية والأمنية وتفرض نفسها كسلطة أمر واقع بالغلبة والقهر أو بواسطة انتخابات مزورة ومؤسسات شكلية وبشراء الذمم وكسر الأحزاب والنخب ومؤسسات المجتمع المدني والسيطرة على الثروة والإعلام والإدارة. غير أن سوء الحوكمة وغياب الرقابة على الشأن العام وانتشار الفساد وهدر الثروات الطبيعية يعيق التنمية الاقتصادية ويشل الخدمة العمومية فينتشر الفقر
وأزمات البطالة والسكن والتربية والصحة فتتجه الدولة نحو التحلل وتصاعد النعرات الشعُوبية داخلها ويغيب معنى المواطنة ويصبح الفرد لا يشعر بالأمان في ظل الدولة فيتجه لجهته وعشيرته وقبيلتة وعائلته ليحمي نفسه ولكي يشعر بالأمان ويحقق ذاته، ومع مرور الزمن يصبح مركز الدولة غير قادر على التحكم الكلي في الأطراف ومهما تضخمك مؤسسات وأدوات الردع لا تستطيع مواجهة الغضب الشعبي المتصاعد. وغالبا ما تكون المعارضة في هذه الحالة ضعيفة ومشتتة وغير قادرة على التأثير في الأحداث فتصبح المواجهة عندئذ بين الشعب ومؤسسات الدولة مباشرة إلى أن يقع الانفلات الكلي الذي قد يؤدي إلى فتنة عظيمة تسيل فيها الدماء غزيرة تتمثل في حرب أهلية عامة أو تفكك الوحدة الوطنية. غير أن انفجار الأزمة قد يؤدي إلى صحوة ضمير على مستوى النخب الحاكمة الفاسدة والنخب الحزبية الضعيفة، أو تظهر نخب جديدة في الطرفين تفرزها الأزمة، تستطيع أن تتفق على خارطة طريق مباشرة عند بدايات الانفلات لاستدراك الوضع بأقل التكاليف الممكنة، وبناء مؤسسات جديدة تعبر حقيقة عن الإرادة الشعبية وتتحلى بقدر كبير من الحكمة والعمل المشترك والتنازل بغرض إنقاذ الوطن وبعث عجلة التنمية من جديد، وعادة ما تكون المهمة صعبة عند الوصول إلى هذا الحد ولكن الإرادة الوطنية الصادقة وكفاءة من تفرزهم الأحداث في تلك المرحلة تذلل الصعوبات كلها.