في ذكرى 20 أوت 1956: عن مؤتمر الصومام

اختارت مجموعةُ 22 الستةَ التاريخيين لتحضير تفجير الثورة وقسموا مناطق البلاد بينهم: مصطفى بن بولعيد (مسؤول المنطقة الأولى)، ديدوش مراد (المنطقة الثانية) ، كريم بلقاسم (المنطقة الثالثة)، رابح بيطاط (المنطقة الرابعة) العربي بن مهيدي (المنطقة الخامسة)، محمد بوضياف (المنسق العام)، بالإضافة إلى القادة التاريخيين الذين كانوا في مصر وهم بن بلة، آيت أحمد وخيضر.

وكان في حساب هؤلاء الأبطال أن يعقدوا اجتماعا سنة بعد الانطلاقة للتقييم والتنظيم، غير أن الصعوبات الكبيرة التي واجهتتها الثورة في سنتها الأولى لم يسمح بذلك. وبعد أن غيرت هجومات الشمال القسنطيني الموازين وحققت الأهداف الكبرى التي ذكرناها في المقال السابق، وبعد أن التف الشعب بمجمله بالثورة والتحق المركزيون ومختلف منظمات وشخصيات الحركة الوطنية من خارج حزب الشعب بالجبهة، أصبحت مسألة عقد مؤتمر عام لتنظيم الثورة مسألة حيوية لمواصلة الكفاح على أسس مؤسسية وتنظيمات وقواعد إدارية وعسكرية ورؤية سياسية وديبلوماسية واضحة، ومتفق عليها.
تم اختيار يوم 20 أوت تيمنا بمناسبة هجومات الشمال القسنطيني ولاعتبار المؤتمر في حد ذاته نتيجة لتلك المعارك التاريخية المباركة. ومن المشاكل التي واجهت مؤتمر الصومام تفكك المنظومة القيادية المسؤولة عن الثورة عند انطلاقها، فمصطفى بن بولعيد استشهد والمنطقة الأولى التي كان يرأسها تعيش أزمة كبيرة، ومحمد بوضياف سافر إلى فرنسا، وقيادات مهمة كانت خارج الوطن في مصر على غرار بن بلة وآيت أحمد وخيضر.
كانت الفكرة الأولى أن ينظم المؤتمر الجامع في المنطقة الثانية بالشرق الجزائري حتى يسهل التحاق القادة الذين في الخارج عبر الحدود مع تونس، ولكن حينما تأكد عدم حضورهم تحول اللقاء إلى أعالي وادي الصومام (إفري أوزلاڤن)، في وسط البلاد لتسهيل حضور المناطق الأخرى وبسبب تحصيناتها الجغرافية وإمكانية الانسحاب بأمان إلى غابة أكفادو.
كُلف العربي بن مهيدي برئاسة المؤتمر لمكانته وحكمته وباعتباره واحد من مجموعة الستة، وعبان رمضان مساعدا وكاتبا للمجهودات الكبيرة التي بذلها لتحضير المؤتمر . حضر هذا الاجتماع التاريخي قادة بابرزين على غرار زيغود يوسف ولخضر بن طوبال وكريم بلقاسم، وأعمر أوعمران، وسليمان دهيليس، وعلي خوجة، وعلي ملاح، ومحمدي السعيد، وعبد الحفيظ أمقران وغيرهم. وكلف عميروش بحماية المؤتمر باعتباره مسؤولا في المنطقة الثالثة التي يقع فيها المؤتمر
استطاع المؤتمر أن يتوصل إلى نتائج تنظيمية وسياسية كبرى سمحت للثورة أن تكون في مستوى الزخم الذي وصلت إليه، وأن تعطي رسالة للخارج بأن الثورة متحكمة على الأرض ولا يمكن استئصالها وأنها مستعدة ومؤهلة للتفاوض في كيفية إنهاء الاحتلال. ومن القرارات المهمة التي انتهى إليها الاجتماع تأسيس المجلس الوطني للثورة الجزائرية ولجنة التنسيق والتنفيذ، وتوحيد قيادات جيش التحرير وهيكلة صفوفه، وتجديد التقسيم الجغرافي للوطن من مناطق إلى ولايات مع إضافة ولاية سادسة للجنوب الكبير، وتأسيس جهاز القضاء وتوجيه وتنظيم النضال المدني والمنظمات الشعبية على مستوى العمال والطلبة وفدرالية الخارج. واتخذ المؤتمر قرارين كبيرين تسببا في خلافات شديدة وهو أولوية السياسي على العسكري، وأولوية الداخل على الخارج، علاوة على صياغة لغوية في الوثيقة تسببت في شكوك خطيرة وأدت إلى انقسامات كبيرة بين الجزائريين تتعلق بهوية الدولة حيث أكد المؤتمر بأن الدولة المنشودة ستكون جمهورية ديمقراطية واجتماعية وليست ملكية أو ثيوقراطية بائدة، ولم تذكر عبارة ضمن إطار المبادئ الإسلامية التي كانت في بيان أول نوفمبر.
مباشرة بعد انتهاء مؤتمر الصومام بدأت الخلافات بشأنه، ثم اختفت هذه الخلافات مع أصحابها من جيل المجاهدين وبقيت على مستوى المثقفين والمهتمين، وبشكل غريب انتقلت هذه الخلافات إلى أجيال الاستقلال من عموم المواطنين في أجواء الحراك الشعبي وضمن حالة الاستقطاب الكبيرة التي حدثت.
كانت أسباب الاعتراضات في صفوف المجاهدين متنوعة، بدأت بالشك في قصة “البغلة” التي هربت بالوثائق ووقعت في أيادي الاستعمار، إذ لم يصدقها البعض واعتبروها خيانة حدثت، واعتبرت قيادات مهمة من منطقة الأوراس التي لم يحضر ممثلوها أن المؤتمر إهانة للمنطقة الأولى وخيانة لرجالها، وصرح عمار بن عودة بأن المؤتمر خرج عن مبادئ أول نوفمبر وأنه اتجه اتجاهات شيوعية ولائكية، واتجه بن بلة لنفس الاتجاه، وهناك من اعتبر المؤسسات المنبثقة عن المؤتمر انقلاب على القيادة الشرعية التاريخية على غرار ما صرح به أحمد محساس، وهناك ممن حضر المؤتمر وكان عضوا في مؤسساته ثم طعن في قراراته وتوجهاته على غرار بن طوبال والشهيد زيغود يوسف، حسب ما ذكر في بعض المراجع والشهادات.
لم تؤثر هذه الاختلافات في مسار الثورة وغلبت ديناميتها مجمل الخلافات الأيديولوجية والسياسية والتنظيمية، بل لم تؤثر حتى على سمعة الثورة عند الشعب الجزائري وفي الخارج حتى تحقق الاستقلال. ثم أسكت الصراع على السلطة غداة الاستقلال هذه الخلافات وأصبح الفرز بين المجاهدين على نحو آخر .
وإذا أردنا أن ندقق في الاختلافات بموضوعية سنجدها ذات طابع شخصي في الغالب، أثرت فيها الظروف والتكوين والصراعات والخلفيات التي كان عليها القادة المؤثرون، دون إغفال الأبعاد الأيديولوجية التي تضمنتها بعض النصوص التي قد تكون من تأثيرات بعض الكتاب اليساريين الذين التحقوا بالثورة كأفراد بعد أن رفض حزبهم حل نفسه كما فعلت الجمعية واتحاد البيان الجزائري، وكان منهم مقررون في المؤتمر.
ولكن، مع كل هذا، لو كانت ثمة فرص للحوار بين المجاهدين ثم بين جيل الاستقلال المهتمين بتاريخ الثورة ونصوصها لما كان ثمة سبب للصراع والتشتت ولما أتيحت فرصة للمتطرفين للتركيز على جوانب الخلاف على حساب ما يجمع الجزائريين ويضمن الميراث الأصيل للثورة.
ومن الملاحظات التي يمكن أن نسجلها حين نقيم مؤتمر الصومام بموضوعية ما يلي:

  • لا يوجد تناقض ولا صراع بين بيان أول نوفمبر ومؤتمر الصومام، فبيان أول نوفمبر رؤية أبدية خالدة تتجاوز الحيز الزمني للثورة يبقى السعي لتجسيد كل بنوده ما بقي نوفمبريون أصلاء في الجزائر يكافحون من أجل ذلك، وسيبقى بيان نوفمبر هو المرجع الجامع للجزائررين ولو بعد قرون، كما هي الوثائق المؤسسة “للثورة المجيدة” في بريطانيا، و”الثورة الأمريكية” و”الثورة الفرنسية” التي تزال مرجعيات ثابتة في بلدانها، في حين أن مؤتمر الصومام هو مؤتمر لتنظيم الثورة ينتهي دوره مع انتهاء الحيز الزمني للثورة وقيام الدولة الجزائرية المستقلة. ومحاسبة القائمين على الدولة عن وفائهم للثورة يكون على أساس رؤية الثورة في بيان أول نوفمبر وليس على أساس تنظيماتها في مؤتمر الصومام التي انتهت بانتهاء الثورة.
  • حتى إن توقفنا عند الشكوك الأيديولوجية واعتبرنا نزع كلمة ” ضمن إطار المبادئ الإسلامية” عمل مقصود من البعض لا يمكن أن نتهم رئيس المؤتمر العربي بن مهيدي الرجل المتدين ابن جمعية العلماء بذلك، كما لا يمكن أن نتهم زيغود زيغود تلميذ ابن باديس وابن الكتاتيب، أو أن نتهم محمدي السعيد بذلك كذلك وهو الذي كام يخاصم بتشدد من أجل الإسلام. علاوة على أن وثيقة الصومام أكدت على المشترك الحضاري واللغوي لشمال أفريقيا، وهو أمر لا يعجب العلمانيين الصوماميين المتشددين الذين يرفضون الحضارة العربية الإسلامية. وفي كل الأحوال لا يمكن اعتبار وثائق الصومام حاكمة على بيان أول نوفمبر الذي كان وبقي محل إجماع، ولم يقع حوله خلاف مثل مؤتمر الصومام، ولم يكن ثمة شخص في مؤتمر الصومام شكك في بيان أول نوفمبر.
  • لو نبتعد عن خلفيات الأشخاص الذين كتبوا النصوص لا نجد تناقضا بين مفهوم الدولة المدنية ورفض الدولة الثيوقراطية التي يتحدث عنها المتحمسون لمؤتمر الصومام وعبارة ” ضمن إطار المبادئ الإسلامية” التي يتمسك بها من يريدون المحافظة على أصالة الثورة وأهدافها، لأنه ببساطة لا يوجد في الإسلام ثيوقراطية. والعلمانيون الذين يتحصنون بمؤتمر الصومام لإثبات أيديولوجيتهم متأثرون بتاريخ الصراع بين الكنيسة والفلاسفة في القرون الوسطى وفي عصر النهضة وعهد الثورة الصناعية في أوربا، ولا يعرفون شيئا عن الإسلام وحضارته بسبب ثقافتهم الغربية، أو متحاملون مأجورون، وإقناعهم أو إفحافهم لا أسهل منه. فلا داعي للدخول في صراع معهم حول مؤتمر الصومام ولكن الأفضل جرهم إلى ساحة النقاش الفكري.
  • أما الحكم على مبدأ “أولوية الداخل على الخارج والسياسي على العسكري” فيجب أن يكون نسبيا وأن يحضر فيه الصراع الذي كان بين القادة. فلا أتصور أن عبارة أولوية الداخل على الخارج تتعلق برؤية سياسية لما بعد الثورة يقصد بها دولة الاستقلال، لا أعتقد أن هذه هي الخلفية، لأنه كيف يمكن الحديث عن أولوية الداخل على الخارج حين نتحدث عن دولة؟ وإنما كانوا يقصدون أنهم لا يقبلون إملاءات القيادات التاريخية التي كانت خارج الوطن ومنهم بوضياف وبن بلة وآية أحمد وخيضر، ونصاب الحق في هذا أن القاعدة صحيحة بالتجريد، ولكن لا يمكن إنكار فضل القادة المفجرين للثورة خاصة محمد بوضياف الذي كان رئيس اللجنة الثورية للوحدة والعمل قبل اجتماع مجموعة 22، وهو الذي انتخبته هذه المجموعة ليكون على رأس مجموعة الستة وهو الذي تم انتخابه منسقا عاما للثورة بين قيادات المناطق وبين الداخل والخارج. فالبرغم من أن وثائق الصومام نصت على مبدأ القيادة الجماعية كان ينبغي إعطاء اعتبار خاص للقادة التاريخيين وذكرهم في الوثائق.
  • وبخصوص أولوية السياسي على العسكري فهي مشكلة وقعت في أغلب الثورات المسلحة عند مختلف الشعوب، حيث كان تأثير العسكري هو دائما الغالب في المواجهات المسلحة مع العدو، ولكن يضل المبدأ صحيحا من حيث آليات اتخاذ القرار والتمثيل السياسي للثورة، ولو احترمت لجنة التنسيق والعمل ثم الحكومة المؤقتة الأولى والثانية، أو ربما لو كانت هذه الهيئة في مستوى المنتظر منها، لما وقعت الأزمات الكبرى التي عاشتها الجزائر قبيل الاستقلال وبعده. وفي كل الأحوال إن التنصيص على هذه القاعدة أثناء الثورة من المجاهدين أنفسهم يعطي مصداقية وقوة وشرعية لمن كافح ويكافح من أحل مدنية الدولة الجزائرية في الشكل والمضمون، وفي النصوص والحقيقة على الواقع، لأنه لا يوجد أي سبب ليكون الحكم عسكريا بعد الاستقلال وإلا يمكننا أن نقول بأننا متخلفون عن المستوى الراقي الذي وصلت إليه الثورة وقادة الثورة.
    وفي الأخير يمكننا أن نخلص إلى أن مؤتمر الصومام حدث تاريخي ومنعطف حاسم نظم في وقته، بعد نجاح تعميم الثورة على إثر هجومات الشمال القسنطيني، ولو لم يحدث لدخلت الثورة في فوضى كبيرة ولما حققت اختراقاتها الكبرى عسكريا ومدنيا ودبلوماسيا، وأما ما يتعلق بأسباب الخلافات الأيديولوجية فيمكن تجاوزها، واعتراض قادة المنطقة الأولى على عدم تمثيلهم يتفهم مهما كانت الوضعية التي كانوا عليها بعد وفاة بن بولعيد رحمه الله، وما يتعلق بأولوية الداخل على الخارج فقد طواها الزمن، والنظام الذي تم اختياره للثورة يبقى للتاريخ، وأولوية السياسي على العسكري مسألة كفاح ضمن سياقات جديدة يُستأنس فيها بنصوص مؤتمر الصومام.

د. عبد الرزاق مقري