الهجرة إلى الحرية

نحتفل كل سنة بيوم الهجرة كحالة دينية، غير أنها مع ذلك حالة أخلاقية وسياسية واقتصادية واجتماعية وحضارية.

– فهي حالة أخلاقية لأن محمدا وصحبه رفضوا العيش تحت الذل والمهانة والضيم والظلم ولم تكن تنقصهم الشجاعة لينتقموا لأنفسهم فيحولوها حربا أهلية، بين الأفراد والأسر والقبائل، لا تضع أوزارها أبدا، كما كان حال العرب قبل الإسلام، ولكنهم رفضوا أن تُسفك الدماء بين الأهل والأقارب وأبناء الوطن الواحد على اختلاف معتقداتهم فيخسر الجميع وتتعطل الرسالة التي مقصدها أن تتجاوز قريش لتكون رحمة للعالمين. فكَفوا أيديهم وأقاموا الصلاة كما أمرهم ربهم وبحثوا عن آفاق أخرى يتنفسون فيها عبق الحرية.

– وهي حالة سياسية لأن الهدف منها هو إقامة دولة يحملها مجتمع مؤمن برسالة الإسلام وملتزم بها، ويتفاعل فيها الأفراد على أسس قانونية تعلن فيها الحقوق والواجبات من أول يوم وفق ما فعله رسول الله صلى عليه وسلم بإعلان وثيقة الصحيفة، وتحدد العلاقات وتضبط المصالح وترسم قواعد الحرب والسلم مع المحيط الخارجي على أساس العلاقات بين الدول والكيانات السياسية، وحرية التنقل وحرية المعتقد وحرية التجارة ولم تكن الغزوات وفتح مكة وإنهاء جيوب الشرك والغدر ثم الفتوحات الإسلامية إلا على هذه الأسس.

– وهي حالة اقتصادية واجتماعية لأنها حررت الاقتصاد والمبادرة وأجازت الملكية الخاصة ووضحت طرق التملك المشروعة ومجدت العمل والكسب، وشجعت المنافسة ووضعت موازين العدالة فيها، وأعلت من شأن المصلحة العامة وأنهت التحكم والاحتكار وانتقلت من النمط التجاري المهيمن لتتوسع إلى نمط الاقتصاد الطبيعي المبني على الفلاحة إلى أنواع من الصناعات والتطور العمراني بحسب التطور البشري آنذاك، وألغت قواعد الاستغلال الربوي وتحكم الأقليات في الثروة والتكنيز وظلم الأجراء، وبنت مسارا لإنهاء العبودية ووضعت قواعد للتضامن الاجتماعي وتدوير المال على أوسع نطاق ومحاربة الفقر والتوزيع العادل للثروة.

فهي بالمجمل حالة حضارة شاملة فكانت مكة هي البيئة الصعبة التي بُني فيها نموذج الإنسان المسلم، وكانت الهجرة هي التي صنعت المجتمع المسلم ثم الدولة المسلمة ثم نهضة العرب ثم حضارة المسلمين بكل أعراقهم ولكل الشعوب التي وصلت إليها الفتوحات.

فالهجرة هي قبل كل شيء رحلة نحو الحرية، ليكون مقصدها الحرية لصالح الرسالة التي نقلها المهاجرون الأبرار في قلوبهم وعقولهم وعلى أساسها استقبلهم الأنصار الأخيار، في بيوتهم ورحالهم.

لقد علمتنا الهجرة النبوية أن الإيمان يستطيع أن يستقر في القلب فلا يطلع عليه أحد، وبإمكان المرء أن يعبد الله في بيته، أو يلتزم بخاصة نفسه فلا تزعج عبادتُه أحدا، فقد كان الموحدون والحنفيون قبل رسول الله صلى الله عليه وسلم يعبدون الله عبادة تختلف عن عبادة الأوثان في جزيرة العرب فلم ينزعج منهم أحد، ولكن إذا كان مقصد الرسالة قومة شعب وبناء حضارة فلا يكون ذلك بدون الحرية.

ومهما اختلفت الظروف في كيفية تحقيق هذا المقصد العظيم لنهضة أوطاننا والاستئناف الحضاري لأمتنا فإن أي مسعى دون استحقاق الحرية التي تفتح آفاق الإصلاح الحقيقي والتغيير المنشود وتسمح بتشييد الأوطان وتكفُل إنهاء هيمنة زمر الرداءة والفساد والعمالة وصناع التخلف لن يكون له أثر في صناعة الحضارة. نعم .. لن يكون لأي عمل إصلاحي تحت سقف التحكم والسيطرة والاستبداد والغش والتزييف ومنع الحريات والحقوق أثر في تغيير أوضاع بلداننا .. مهما كثرت وتنوعت أعمالنا .. بلا حرية.

قد يكون من الصعب افتكاك الحرية مع المحافظة على استقرار المجتمع واجتناب الاقتتال داخله على ما كان من أهداف الهجرة، وقد لا يكون ثمة وطن يهاجر إليه عشاق الحرية ليعودوا إلى أوطانهم الأصلية منصورين مظفرين لاختلاف الظروف والأحوال، وقد تكون الهجرة إلى داخل الوطن، مهما كانت الصعوبات، أنفع للمقصد والرسالة.

لكن في كل الأحوال يجب أن تكون الهجرة إلى الحرية هي مقصد كل مكافح من أجل نهضة وطنه، سواء كانت هجرته إلى خارج الوطن أو كانت الهجرة في الداخل من الوطن إلى الوطن .. لا تفريط في الحرية مهما كانت الصعاب وحيثما كانت الصعاب.. وذلك هو الإبداع الذي يحافظ على المقصد مع تغير الوسائل من خطة إلى خطة، ومن حال إلى حال، ومن أسلوب إلى أسلوب، ومن خطاب إلى خطاب، ومن حلف إلى الحلف ومن عمل إلى آخر ضمن المتاح من الظروف وما يسمح به شرع الله سبحانه والمروءة والأخلاق … المهم أن يكون المقصد هو الحرية وأن تكون الغاية هي نهضة الوطن واستئناف حضارة الإسلام. وأن نكون غدا مع قائد المهاجرين والأنصار الحبيب المصطفى في جنات رب العالمين، عليه أفضل الصلاة وأزكى التسليم.

د. عبد الرزاق مقري