الندوة الوطنية: “الجزائر والتحديات الخارجية”

نص مداخلة رئيس الحركة د. عبد الرزاق مقري

09 جانفي 2021

بسم الله الرحمن الرحيم.

السادة الأفاضل رؤساء الأحزاب المؤسسة وقيد التأسيس،

السادة والسيدات رؤساء الجمعيات الوطنية،

السادة والسيدات ممثلو وسائل الإعلام،

السادة والسيدات الحضور، 

السلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته،

إنها لفرصة طيبة أن نجتمع في  هذا اللقاء المبارك، ضمن الظروف الصعبة والمعقدة التي تحيط بنا كفاعلين في الساحة السياسية والمجتمعية يرومون الحوار والتشاور لخدمة وطنهم، وكبلد لا يزال يبحث عن سبل الخروج من أزماته والاستقرار النهائي على طريق التنمية والتطور والازدهار، وكأمة تسعى شعوبها للنهضة واستئناف الشهود الحضاري. 

إننا نلتقي اليوم ضمن محاولة أخرى لتفعيل العمل المشترك وتجسير العلاقات بيننا، لعلنا نوفق في بعث أجواء الحوار والتعاون والتعاضد بما يصنع بيئة سياسية هادئة بعيدة عن المشاحنات والصراعات والتفرقة العدمية التي لم نجن منها سوى الضعف والتشتت وتعطل الوصول إلى انتقال ديمقراطي حقيقي سلسل وآمن يجسد الشرعية الشعبية ويأذن بالاهتمام  بأولوية رص الجبهة الداخلية أمام المخاطر الخارجية القائمة، والإقلاع الاقتصادي  المتأخر حتى ينعم شعبنا بالعيش الكريم الرغيد في كنف العدالة والحرية والأمان وصيانة حقوقه وهويته وانتمائه.

لقد بين الحراك الشعبي المبارك بأن السيطرة والهيمنة والنظرة السلطوية الأحادية لا يمكن أن تدوم، وأنه مهما كانت سطوة الحاكم الفاسد والفاشل والظالم، ومهما كانت ضخامة فقاعة الزبونية السياسية والإعلامية المتعلقة به، وادعائه الوطنية والأهلية، ومهما كان اقتناع الكثيرين بأبدية غلبته ومهما كان استسلام  أكثر الناس له فإنه يمكن أن ينكشف على رؤوس الأشهاد يوما ما بأنه مجرد “عصابة” آثمة فاسدة. كما أن الحراك الشعبي بيّن كذلك بأن أهدافه الكبرى ستتلاشى وأنه سيعجز عن معالجة الأسباب التي صنعت “العصابة” وعن التغيير المنشود الكامل حينما يفترق الفاعلون السياسيون المشكلون والمؤيدون له، بسبب التنافس على السلطة قبل الأوان، قبل تحقيق الإصلاحات الضرورية لجعل التنافس نزيها عادلا، وقبل توفير البيئة المناسبة للفصل بين ما يجب المحافظة عليه جماعيا لمصلحة البلد وأهله، وما يمكن التنافس بشأنه بما يحقق الإبداع ويوفر الأفضل والأحسن للجميع. 

إن الصراعات والعداوات  التي أفرزها الحراك الشعبي كانت فعلا معطلة لتحقيق أهدافه الكبرى،  ومسؤولية ذلك تقع على الجميع، مسؤولية السلطة بكل مكوناتها، ومسؤولية الطبقة الحزبية والاجتماعية بكل تشكيلاتها، والخلفية المشتركة الخاطئة  هي التسابق المحموم لاستغلال الحراك من أجل الوصول إلى الحكم أو البقاء فيه، وبروز مظاهر شعبوية على مستوى السلطة لإضعاف البدائل السياسية الناضجة والجاهزة بدل انكسار أجهزتها الحزبية المضخمة بالتزوير، ومظاهر شعبوية أخرى على المستوى الشعبي  جشعة ومتسرعة  لفرض نفسها بلا نضال على حساب الجميع بلا تمييز، حتى على حساب مناضلين نزهاء قضوا أعمارهم في العمل السياسي وتوعية الأجيال ، وكان الأولى لنا جميعا أن ننتبه إلى أولوية التعاون والتقارب والتعاضد والعمل المشترك  لمصلحة  الجميع من أجل توفير الظروف القانونية والسياسية والثقافية والاجتماعية الموصلة إلى بناء مؤسسات ذات مصداقية يزيد التنافس السياسي في قوتها بدل إضعافها. غير أن الإيجابيات التي جسدها الحراك إلى غير رجعة يمكنها أن تجعلنا نستدرك ما فات وتتمثل هذه الإيجابيات في تشكل ثقافة الحرية والإيمان بإمكانية التغيير وعودة سلم القيم إلى أصله باعتبار الفساد والتزوير الانتخابي عمل منكر خطير على البلد وكارثي العاقبة على أصحابه، وكذا كسر فقاعات الانتهازية والتملق وجعل أصحابها يخشون التصدر والمزايدة السياسية والتفنن في “الشيتة” كما كانوا من قبل. 

أيها السادة والسيدات، 

إن هذا التقييم السريع لنتائج الحراك، إيجابياتها وسلبياتها، يحملنا مسؤولية التعاون لصالح بلدنا أولا وآخرا، التعاون الصادق والجاد لصياغة وإطلاق “مشروع وطني جامع”  يمتّن الجبهة الداخلية  في مواجهة المخاطر الخارجية، والتعاون لبناء المؤسسات ذات المصداقية والشرعية الشعبية التي تصون الجزائر وتطورها سياسيا واقتصاديا واجتماعيا وثقافيا وفي مختلف المجالات. 

لا شك أن التدخل السافر من البرلمان الأوربي  في شؤوننا، بنظرة استعمارية استعلائية مثيرة  للفتنة بين أبناء الشعب الواحد قد أثارت فينا النخوة الوطنية والغيرة على بلدنا فقمنا جميعا، كل في إطار حزبه ومنظمته، بإدانته والتصدي السياسي له ضمن وعي تام بخلفيات ومرامي ذلك التدخل المقيت وما يهدف إليه من ابتزاز للمسؤولين والمؤسسات الرسمية،  لتحقيق أهداف اقتصادية وثقافية واجتماعية وجيوستراتيجية باتت غير خافية على المهتمين والمطلعين، وقد آن الأوان أن يكون الموقف جماعيا عبر هذه الندوة بعد المواقف المشرفة الفردية، على أن تكون الجهوزية الجماعية لمواجهة التدخلات الأجنبية دائمة مستقبلا وقادرة على التفاعل السريع واللحظي.

ولا يفوتنا، ضمن الحديث عن المخاطر الخارجية، ذكر ما يحصل على حدودنا كلها بما جعلنا نشعر وكأن كماشة تحكم قبضتها حولنا من كل الجهات أكثر فأكثر. ففي حدودنا الشرقية في ليبيا تطورات لم نصبح نتحكم فيها، تداعت لها دول عديدة يعمل أكثرها على تجاوزنا، وهو وضع لا يمكن قبوله إذ الجزائر أولى بالمساهمة في الحل لصالح الأشقاء الليبيين وجيرانهم من غيرها، وفي حدودنا الجنوبية تحرشات وأطماع  من القوى الاستعمارية تفرض علينا الرجوع إلى التحكم في ملف دول الساحل لحفظ أمننا والتعاون بين دول المنطقة لصالح شعوبها، وفي حدودنا الغربية طعنة مسمومة في الخلف من النظام المغربي بجلب العدو الصهيوني إلى حدودنا بحجج لا تقل سوء من جريمة التطبيع ذاتها حول قضية تقرير المصير للشعب الصحراوي وفق المقررات الأممية التي لم نسندها إلا لأنها عادلة في قضية أشقائنا الصحراويين. إن الوقت المتاح للكلمات في هذه الندوة لا يسمح بالتفصيل أكثر ونكتفي بالقول بأنه حينما يتعلق الأمر بالتهديدات الخارجية يجب أن نكون صفا واحدا حتى لا يطمع فينا الأعداء، مهما يكن التقصير والأخطاء التي تكون قد ارتكبتها السلطات الرسمية في تسيير هذه الملفات. 

أيها السادة والسيدات،

لئن كان التزامنا بالدفاع عن بلدنا التزاما أخلاقيا تلقائيا بلا شرط ولا حسابات بما تمليه علينا قيمنا الإسلامية وواجباتنا الوطنية فإننا مع ذلك نؤكد بأن عملنا من أجل رص الجبهة الداخلية يكون أسهل وأقوى حين يتمتع المواطن بكرامته كاملة وينال حقوقه وحريته تامة، وحين يشعر بأنه يعيش في كنف الدولة العادلة التي تعلي من شأن هويته وانتمائه وتحرص على احترام إرادته في اختيار ممثليه في مؤسسات الدولة وعلى تحسين أوضاعه المعيشية وعلى المساواة بين الجميع في الفرص في مختلف المجالات. وعلى هذا الأساس وجب علينا التعاون والحوار والتشاور من أجل إنجاح الإصلاحات السياسية وفق ما يلي: 

  • تحسين الأجواء السياسية بالخروج من حالات الاحتقان المهلك والاستقطاب العدمي بالحوار وتطوير المصطلحات والمخزون اللغوي السياسي بما يساعد على التقارب بدل التنافر.
  • التوقف عن الصراعات العرقية والجهوية والمناطقية وتحويل النقاش والمنافسة بين البرامج والأفكار كل حسب خلفياته الفكرية الحضارية.
  • صيانة المشترك الهوياتي بين الجزائريين، وعلى رأسها الانتماء الديني واللغوي، وعدم تعريضها للصراعات السياسية العدمية وتجريم الاستعانة بالأجنبي بهذا الصدد بأي شكل من الأشكال.
  • إطلاق حوار جاد ومسؤول بخصوص قانون الانتخابات، وتوفير ضمانات نزاهة الانتخابات المختلفة والاتفاق على جدول تنظيمها والابتعاد عن كل شكل من  أشكال تدخل الإدارة في المنافسة بين الأحزاب.
  • اعتبار الأحزاب مؤسسات وطنية من مؤسسات الدولة يجب احترامها والابتعاد عن محاولات إضعافها أو إرباكها، واعتبار أن ديمومة نزاهة الانتخابات هو أهم ما يساعد على تطوير الأحزاب وبروز طبقة سياسية نزيهة ومؤهلة.
  • اعتبار جمعيات المجتمع المدني شريكا أساسيا في تطوير البلد سياسيا واقتصاديا واجتماعيا وثقافيا، وما يؤهلها لذلك أكثر هو فاعليتها الوظيفية والتزامها باختصاصاتها التشاركية كقطاع ثالث للخدمة العامة وفي المجالات الدفعية وليس بمنافسة الأحزاب في اختصاصاتها التمثيلية.
  • إطلاق سراح المساجين السياسيين جميعا وتحرير العدالة وصيانة كرامتها من الأحكام السياسية المتناقضة المذهبة للثقة فيها، وكذا تحرير وسائل الإعلام التقليدية والحديثة من الضغوطات والابتزاز بأي شكل من الأشكال.

أيها السادة والسيدات،

إن إقامة جبهة داخلية ضد التهديدات الخارجية وتحقيق الإصلاحات السياسية المنشودة لا تكون ذات جدوى ولا تضمن الديمومة والاستمرار دون النجاح في تحقيق التنمية الاقتصادية. 

إن المخاطر الاقتصادية هي نتيجة فشل الحكم في البلدان وهي سبب انهيار تلك البلدان في الأخير بانتقالها إلى حالات الفوضى والفتن والانشقاقات والانقسامات.

إن بلدنا اليوم يعيش أزمة اقتصادية راكمتها سنوات الفساد والفشل، وهي لا تعرف طريقا لحلها إلى اليوم، وما نقرأه في المؤشرات الرسمية محير بل مخيف، ولا أريد أن أثقل عليكم بتلك المؤشرات على مستوى العجوزات المستديمة في الميزان التجاري وميزان المدفوعات ومعدلات النمو، وتذيل المراتب التنموية والخدمية دوليا، وغلاء المعيشة وانهيار العملة في ظل نهاية حتمية وحقيقية وآنية لزمن الريع الطاقوي، تلك المؤشرات التي لم نتوقف عن التنبيه إليها منذ سنوات إلى اليوم في مختلف مداخلاتنا وندواتنا، وإنه مهما كانت صعوبة الوضع الاقتصادي وما ينجم عنه من توترات اجتماعية يمكننا القول بلا تردد بأن الجزائر تملك إمكانات كبيرة خارج المحروقات تتطلب شروطا أساسية لو توفرت لانطلق قطار التنمية. وتتمثل هذه الشروط أولا في توفر الحكم الراشد الشفاف الذي لا يعفى فيه أحد من المساءلة والمبني على الشرعية وكفاءة المسؤولين، ثم ثانيا في توفر الاستقرار الاجتماعي والأحزمة السياسية والمجتمعية الداعمة لمخططات وبرامج التنمية، ثم ثالثا في توفر الوقت اللازم لتحريك المقدرات البشرية والمادية  وإطلاق المشاريع اللازمة لنهضة البلد، ثم رابعا في توفر المصادر المالية لتمويل المشاريع برؤوس الأموال من الداخل والخارج التي تجلبها البيئة اللائقة للأعمال بعيدا عن ثقافة وممارسة الفساد وبتحقيق الإصلاحات الضرورية في مختلف القطاعات ذات الصلة.

أيها السادة والسيدات،

كل هذا الذي ذكرناه على مستوى بناء الجبهة الداخلية ونجاح الإصلاحات وتوفير الحريات وتحقيق التنمية في مختلف المجالات من أجل نهضة وطنية شاملة هو ما نسميه “المشروع الوطني الجامع” الذي نصبو إلى تجسيده في هذه الندوة وما يتبعها من استدامة الحوار والتشاور والتعاون في المشترك الوطني بما نتفق عليه اليوم في مختتم اللقاء أو ما نتوصل إليه لاحقا بيينا.

والله نسأل التوفيق.

والسلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته.