سبق لنا في مقال سابق أن تحدثنا عما تمثله لنا القضية الفلسطينية ولماذا هي قضيتنا المركزية كأحرار وعرب ومسلمين، ولأهمية التطورات الحاصلة في هذا الملف ووجود حزب إسلامي في قلبها رأينا أن نفصل في موقفنا من هذه الأحداث عبر عشرة مقالات، معتبرين المقال السابق هو فاتحة هذه السلسلة.
ومقال اليوم يتعلق بموقفنا المبدئي من التطبيع ولماذا نعتبره خيانة للقضية مهما كانت الظروف ومهددا لمستقبلها ومستقبل العالم العربي والإسلامي بالمجمل في مختلف الجوانب.
- إن التطبيع ركن من أركان قيام واستمرار المشروع الصه&يوني، فالكيان الص&هيوني كيان غريب ضار زرع بالقوة زرعا في جسم غريب عنه، و هو كيان محتل لأرض عربية إسلامية من أخبث أنواع الاحتلال الإحلالي الذي يريد طرد شعب من أرضه متجذر فيها أبا عن جد عبر الزمن، وإحلال شعب آخر بدله جاؤوا به من مختلف أنحاء العالم لا يتصل مجملهم في هذه الأرض بجده الثاني الأعلى، ويريد هذا الاحتلال طمس كل معالم الوجود الحضاري والديني والثقافي لأصحاب الأرض، وتدمير مقدساته وعلى رأسها المسجد الأقصى، والسيطرة على المنطقة كلها سياسيا واقتصاديا وعلميا واجتماعيا وثقافيا. وهذا الشعب الذي يراد طرده من بلده فلسطين، و يراد تدمير مقدساته وطمس هويته هو جزء من شعوب العالم العربي والإسلامي، ينتمي وإياهم إلى أمة واحدة ذات خصائص دينية وثقافية وحضارية واحدة، ولها تاريخ متماثل منذ قرون، ومصير مشترك الآن وفي المستقبل، ظلت مكوناتها متناصرة بينها في كل الظروف رغم المآسي والتحولات السياسية المختلفة، وما الهدف من التطبيع إلا كسر هذه الوحدة الصلبة القوية التي عجزت حقبة الاستعمار عن تفتيتها، وذلك من خلال جعل وجود هذا الكيان المحتل الغريب طبيعيا بيننا نتبادل معه الزيارات والبضائع والصداقات وكل انواع التعامل، بمعنى أن نحول العدو الظالم إلى صديق، على المستوى الوجداني والعاطفي وليصبح حليفا تبرم معه اتفاقيات التعاون والحماية المتبادلة. ويمكن أن نبسّط تصوير هذه الجريمة كحال حارة يسكنها أشقاء يسطو غريب على دار أحدهم، فلا يكتفي إخوة المظلوم بعدم نصرته بل يصادقون الظالم ويعتبرون وجوده طبيعيا وبزيدون في قوته بمجالسته والأكل والشرب معه، بل بتعاونهم معه ماديا ومعنويا، كيف لهؤلاء الأشقاء المتخاذلين الخائنين أن يقنعوا أخاهم المظلوم بأنهم لا زالوا ينصرونه. إن تصرف الخذلان هذا يستوجب اللعنة والعياذ بالله مهما كانت الادعاءات، كحال بني إسرائيل الذين لعنهم الله تعالى في قوله: (( لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وعيسى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ ، كَانُوا لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ } [المائدة : 78-79])) وقد بين ذلك المصطفى عليه الصلاة والسلام في الحديث الذي رواه ابن مسعود عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنه قال : (( إن أول ما دخل النقص على بني إسرائيل أنه كان الرجل يلقى الرجل فيقول : يا هذا اتق الله ودع ما تصنع فإنه لا يحل لك ، ثم يلقاه من الغد وهو على حاله فلا يمنعه ذلك أن يكون أكيله وشريبه وقعيده ، فلما فعلوا ذلك ضرب الله قلوب بعضهم ببعض ثم قال : { لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا .. )) [أخرجه الترمذي وحسنه].
- ولا يستطيع هؤلاء المطبعون أن يتعللوا بكذبة تعايش الأديان ووجوب الإحسان لأهل الكتاب، فهؤلاء الي&هود المحتلون ليسو مسالمين يجوز برهم والإقساط إليهم وفق ما جاء في قول الله تعالى في معرض حديثه عن العلاقة مع المشركين وأهل الكتاب ضمن رؤية قرآنية عامة للعلاقات الدولية في سورة الممتحنة التي تبدأ بقوله سبحانه: (( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِم بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُم مِّنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ ۙ أَن تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِن كُنتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَادًا فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاءَ مَرْضَاتِي ۚ تُسِرُّونَ إِلَيْهِم بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنتُمْ ۚ وَمَن يَفْعَلْهُ مِنكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ (1) )) إلى أن يقول : (( لَّا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (8) )) ليجيز للمسلمين التعامل بالبر والقسط مع دول كل الملل والمعتقدات ما لم يكونوا محاربين لهم قد شردوهم وأخرجوهم من ديارهم، إلى أن يقول بلسان عربي مبين: (( إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَىٰ إِخْرَاجِكُمْ أَن تَوَلَّوْهُمْ ۚ وَمَن يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (9)))، فحرّم سبحانه بشكل قطعي موالاة المحاربين، والموالاة في سياق السورة هي العلاقات الودية والتبادل والتعاون بما يقوي العدو، وهو ذات الأمر الذي يفعله المطبعون مع الكيان الص&هيوني المحتل الذي حارب الفلسطينيين وشردهم وطردهم من قراهم وبيوتهم ولم يسمح لهم بالعودة، فلا زالوا يعيشون في اللجوء إلى الآن.
– أما من الناحية السياسية فإن الهدف من التطبيع هو تأمين العدو المحتل بأن لا خوف عليه، وبما يجعله يستمر في الاحتلال دون أي خطر يتهدده، وأنه يمكن أن يستفرد بالشعب الفلسطيني ويخضعه بشتى الوسائل، وأن هؤلاء الفلسطينيين لا سند لهم في مقاومة المحتل، وأقصى ما يأخذونه من مساعدة من المطبعين، ربما، هو صدقات لسد رمق العيش حتى لا يهلكوا بالمجاعات، بلا كرامة ولا عزة ولا حرية ولا مستقبل، بل إن التطبيع هو ما يجعل الكيان المحتل هو الأكثر قوة، يوما بعد يوم، وأكثر ظهورا على إخوانهم المسلمين من خلال مختلف أسباب التعاون بينه وبين الدول المطبعة. - ومن أسوء أنواع التحايل على القضية الفلسطينية هو ادعاء المطبعين بأنهم يستمرون في دعم القضية الفلسطينية ضمن المسار السلمي وحل الدولتين، والحاصل أن مجرد إعلان التطبيع معناه التخلي عن حل الدولتين الذي تشدق به حكام العرب ضمن المبادرة العربية المزعومة التي تسمح بالتطبيع في حالة خروج الكيان المحتل من أراضي 67، فأي تطبيع قبل ذلك معناه التخلي عمليا عن إقامة الدولة الفلسطينية على أراضي 67 وعاصمتها القدس الشريف. أما الادعاء بأن ما لم يتحقق بالمقاومة وبالضغط الجماعي من أجل القضية الفلسطينية يمكن تحقيقه بالتطبيع فهو تدليس آثم يسقط وهمَه ما آلت إليه القضية الفلسطينية ضمن اتفاقيات أوسلو التي مسح بها حكام الكيان الصهيوني الأرض وأنهوها عمليا. وكان الأولى بهؤلاء المتخاذلين إذا كانت فلسطين تهمهم فعلا أن لا يعينوا العدو على الأقل إذ عجزوا على مناصرة الفلسطينيين، فيبقوا الكيان الصهيوني معزولا ولا يهيؤوا له أسباب التمدد في كيان الأمة. لم يصبح مطلوبا منهم، وقد وصلوا إلى ما وصلوا إليه من الانحطاط، أن يحاربوا إس&رائيل ولا أن يساعدوا الفلسطينيين على تحرير بلدهم، كل ما أصبح يطلب منهم أن لا يساعدوا العدو المحتل بتطبيع العلاقة معه.
- أما بالنسبة للمطبعين الذين أظهروا تخليهم عن القضية الفلسطينية، سواء بالتصريح أو بالفعل، بحجة أنهم يبحثون عن مصالح أوطلنهم بمصالحة الص&هاينة فلينظروا إلى الذين صالحوا هذا العدو وأدخلوه ديارهم كيف هو حالهم بعد عقود من عقود الخيانة، فلينظروا كيف هو حال مصر، هذا البلد العظيم، الغني ببعده الحضاري وموارده البشرية العريقة والكبيرة، وموارده الطبيعية الوافرة، أرض النيل وصاحب الموقع الجيوستراتيحي المتميز في قلب الأمة وقلب العالم كيف هو حاله اليوم، بلد فقير يغرق في التخلف والضعف والهوان وعدم الاستقرار وفقدان السيادة، لا يحفظ أمنه ووجوده الا بالمساعدات الخارجية، في وقت تبرز وتتطور وتزدهر دول أقل أهمية ومقدرات من مصر . ولينظروا إلى حال الأردن صاحب الوصاية الرسمية على المسجد الأقصى (بلا قدرة على فعل شيء لحمايته)، والأرض المعطرة بقبور الصحابة والتابعين، كيف هو مجرد بلد وظيفي لا حول له ولا قوة، لم يستطع تحقيق إقلاعه التنموي رغم الموارد البشرية المتميزة التي يملكها، ولينظروا إلى أين انتهى ياسر عرفات وكيف هي السلطة الفلسطينية المزعومة ورئيسها محمود عباس. إن الكيان الص&هيوني إذا حل ببلد، ووجد فيه الأمن والأمان والعلاقات الطبيعية، فإن وجوده سيكون استخباراتيا تدميريا بالأساس مقصده تدمير مقدرات ذلك البلد وهدم تحصيناته الأخلاقية والثقافية والدينية، وليَفتك بقيمه وأعرافه، ويجعل اقتصاده تابعا للمنظومة الرأسمالية المالية التي يسيطر عليها الص&هاينة وأحلافهم من المادييين المتحكمين في الشركات الاستغلالية العابرة للجغرافيا، ثم لجعل أغلب مواطني الدول المطبعة فقراء يلهثون ليل نهار وراء لقمة العيش لا غير كسلعة عمالية رخيصة لدى هذه الشركات.
- ومن يعتقد بأنه مكره على التطبيع، وأن هرولته نحو العدو إنما هو كمن يأكل الجيفة مضطرا فهو كاذب، إذ لا اضطرار لمن عزم على المقاومة والصبر والثبات، فكم من بلدان في تاريخ البشرية انعتقت بعد عقود من الضعف عجزوا فيها عن هزيمة الظالم القوي إذ لم يعترفوا به حتى توفرت الظروف الأفضل للفتك به، إنما التطبيع قتل للنفس محرم في كل الشرائع في كل الأحوال، اللهم ليس ثمة اضطرار يعذر به المطبع إنما هو خيانة للمبادئ وسقوط أخلاقي لا يمح عاره الزمن، وهو مع ذلك قلة رجولة وانعدام للمروءة حيث أنه خذلان وطعنة في ظهر الفلسطينيين الأشقاء العزل، وهو تفتيت لوحدة الأمة وانغماس في قطرية تغرق فيها العقول القاصرة التي لم تفهم أهمية المحاور الكبرى في هذا الزمن وحتمية استقواء الأمم ذات الانتماء الواحد والمصالح المشتركة ببعضها البعض ضمن عالم معادٍ متكتل، وهو في هذا السياق إنكار لما أراده الله لنا كمسلمين لنكون أمة واحدة وفق قوله تعالى: (( وأن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاعبدون)) ، ونقض للأخوة الإسلامية التي ثبتها الله تعالى في قوله: (( إنما المؤمنون إخوة))، وترك لموالاة المؤمنين بعضهم بعضا وتخل عن واجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر معا وفق ما أمر به المولى سبحانه: ((وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (71)})).
- وأسوء من ذلك كله، أن المطبعين يضعون أنفسهم في كفة المحاربين الذي قاتلوا المؤمنين في دينهم وأخرجوهم من ديارهم، إذ هم ممن حموا ظهور الأعداء، فلا غرو أن يُعَدّون من الظالمين الذين لا يمكن بذل البر والإقساط لهم ولو كانوا مسلمين، إذ هم بتطبيعهم قد ظاهروا الصهاينة المعتدين على الفلسطينيين
وفق ما جاء في قوله تعالى في الآية التي ذكرناها أعلاه في سورة الممتحنة: (( إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَىٰ إِخْرَاجِكُمْ أَن تَوَلَّوْهُمْ ۚ وَمَن يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (9) ))، والله نسأله الهداية والعافية والثبات، ولا حول ولا قوة إلا بالله.