بين المقاطعة والتصويت ب”لا”: ما هو الموقف الذي يزعج السلطة الحاكمة ويفسد حساباتها؟

مقاربتنا التي نعرضها في هذا المقال تتجه للمقتنعين بضرورة الاهتمام بالشأن العام والمقاومة السياسية السلمية لمواجهة الاستبداد والهيمنة والفساد بمختلف الوسائل السلمية ومنها المشاركة في الانتخابات، فهي لا تعني الذين يعتبرون المقاطعة قناعة دغماتية نهائية ودائمة.


وضمن دائرة النقاش المحددة هذه نسلّم بأنه حينما يكون النقاش بين المقتنعين بخيار المشاركة السياسية واعتماد الانتخابات كآلية أساسية لذلك يمكننا أن نقول بأنه ضمن الاتجاه العام للمشاركة السياسية يمكن للساسة وقادة الأحزاب اللجوء إلى مقاطعة الانتخابات في حالات مدروسة يترجح لديهم فيها أن الموقف يؤثر فعلا في موازين القوة وسيؤدي إلى انتخابات حرة ونزيهة في مرحلة مقبلة تتم المشاركة فيها. فالمقاطعة في هذا السياق موقف محترم ولا حرج أن يختلف الناس بخصوصه لاختلاف المعلومات والتحليل وزوايا النظر.  ونحن نرى في إطار هذا الاختلاف المشروع أن مقاطعة الاستفتاء على هذا المشروع المعروض خطأ لاعتبارات عدة منها:

  • أي مقاطعة للمسار الانتخابي لا ينقل إلى بديل آخر للتغيير هو مجرد تعبير صوتي يكون لصالح المصوتين ب” نعم” وعليه لصالح النظام السياسي القائم والسلطة الحاكمة.
  • من يعتقد بأن المقاطعة ستحرج النظام السياسي فهو مخطئ، ذلك أنه إن لم يتبع المقاطعة وسيلة أخرى سلمية تزعز حكمه، سيفرض هذا الدستور نفسه وسيخضع المقاطعون لأحكامه وستعترف به الدول ويتعامل معه الشعب بكل توجهاته.
  • لن يضر النظام السياسي خلو مكاتب التصويت من الناخببن لأن ما يقوم به يحظى بغطاء دولي من الدول المساندة له والمستفيدة من الوضع القائم، وإن قررت هذه الدول إحراجه فإنما تفعل ذلك لفترة وجيزة لابتزازه بغرض مزيد من التنازلات في مجالات السيادة والهوية والاقتصاد والتوازنات الدولية، وبعد أن تحقق مبتغاها تعود لمساندته ومساندة خياراته.  وقد سبق لي أن واجهت بذلك بوضوح بعثة الاتحاد الأوربي لمراقبة الانتخابات التشريعية سنة 2012 التي زكت تلك الانتخابات رغم إقرارها بالتلاعب في الكتلة الناخبة.
  • هذا التصويت، خلافا لدستور 2016, معروض على الشعب وليس البرلمان وبإمكان ملايين الاصوات ب”لا” أن تسقط حتمية التزوير بأن تخيف النظام السياسي من العواقب وتشجع قوى رسمية في الإدارة وفي مختلف مؤسسات الدولة للانحياز للشعب، لا سيما أن النظام السياسي في وضع هش ويعيش أزمات متعددة بسبب طريقة تسييره للدولة بما جعل المشاكل تتعمق ولا تنفرج.
  • حتى وإن تم التزوير فإن امتلاء الصناديق بأوراق “لا” سيدمر معنويات السلطة المتحكمة التي تريد فرض هذا الدستور، وسيفتح ذلك سبلا قوية وفاعلة للنضال السياسي بعد الدستور إذ ما يسقط شرعية الاستفتاء هو افتضاح التزوير وليس المقاطعة.
  • ثبت أثناء الحراك وقبله وبعده أن الخطاب الذي كان يوجع النظام السياسي هو كون الانتخابات كانت مزورة، ولم يكن في الخطاب السياسي لكل السياسيين والنشطاء شيء عن عدم شرعية الانتخابات السابقة بسبب نسب  التصويت التي كانت مدنية.
  • لقد كان النظام السياسي يحلم، منذ الانتخابات الرئاسية سنة 1995 إلى بناء شرعية جديدة بعد إلغاء انتخابات 1992 وأن يتوصل إلى تداول سلمي على السلطة دون تزوير بين حزبيه الأرندي والأفلان، وأن تصبح أحزابه أحزابا عاديا لا تحتاج إلى دعم الدولة، والذي منعه من تحقيق ذلك هو التزوير الدائم للانتخابات بسبب ثبات المقاومين عند الصناديق وليس مقاطعتها، فالمشاركون هم من أفسدوا الخطة وليس المقاطعون، ودليل ذلك ما قلناه في الفقرة الأعلى بأن الخطاب الذي استعمله السياسيون دوما لإحراج النظام السياسي هو أن كل الانتخابات كانت مزورة ولم يستطع أحد استعمال نسب المشاركة المتدنية. فلا هدية أكبر تقدم للأنظمة المستبدة مثل خروج قوى التغيير من العملية السياسية الانتخاببة، والبقاء في بيوتهم دون فاعلية .
  • نتائج المقاطعة في مختلف الدول حيث تجارب الكفاح  من أجل التحول الديمقراطي كانت عسيرة مثل حالنا كانت على العموم سلبية، وفي الغالب رجع المقاطعون إلى المشاركة السياسية ولم يتوقفوا إلى حينما انتقلوا إلى وسيلة جديدة كالانتفاضات السلمية العارمة التي تسمى عندنا الحراك الشعبي المبارك.
  • هذا الاستفتاء جاء بعد الحراك الشعبي وتوفُّر حاضنة شعبية كبيرة اقتنعت بالمشاركة في الشأن السياسي بعد ما لم تكن مهمتة بذلك، لا سيما أن الحاضنة الرافضة للدستور هي الحاضنة الحراكية الحقيقية الموزعة بين المقاطعين والمصوتين ب”لا” ، فالفرصة إذن كبيرة لمواجهة الحاضنة الداعمة للدستور التي كانت مرتبطة بالنظام السياسي السابق والتي دعا الحراك إلى إسقاطها.
  • وفي الختام لم يكن التزوير الانتخابي أو أي شكل من أشكال الاعتداء على الإرادة الشعبية سببا لعدم المشاركة في الانتخابات عند الأحزاب والقوى السياسية العريقة في العالم، ومن ذلك التجربة التركية التي لم تتوقف فيها المشاركة في الانتخابات رغم الانقلابات العسكرية وسجن الفائزين إلى إن تحقق التحول الديمقراطي، ونفس الحال في المغرب حتى جاء وقت توقف التزوير، ونفس الحال في مصر إلى غاية ثورة يناير، بل كان آخر تزوير انتخابي في هذا البلد هو من مسببات تفجير الثورة الشعبية السلمية.
  • ولعل من أكبر ما يمكن أن يقنع المقاطعين بسبب هاجس التزوير هو مشاركة الحركة الوطنية الجزائرية في الانتخابات التي كانت تزورها الإدارة الاستعمارية بشكل مستدام إلى غاية ما بعد 20 أوت 1955، أي أن قادة الثورة لم يطلبوا من المنتخبين الوطنيبن الخروج من المجالس المزورة والتوقف عن المشاركة في الانتخابات إلا بعد سنة من اندلاع الثورة التحريرية حين تأكدوا أن الثورة ترسخت واستحكمت عند الشعب على إثر  الهجمات الكبرى في عشرين أوت.
    والذي يسير سياساتنا في هذا الشأن  في حركة مجتمع السلم هو هذا الفهم، فنحن نشارك منهجيا في كل الانتخابات، خصوصا التي لها علاقة بالشعب، ولكن قد نقاطع أو نمتنع عن التصويت اذا قدّرنا أنه  لا توجد أي فرصة ولا أي مكسب مهم يشجع ويساعد على استمرار النضال بشكل أفضل، وحينما يظهر أن ثمة توجه عام لحراك شعبي سلمي يستطيع تغيير موازين القوة نتحول إلى الوسيلة الجديدة الأكثر فاعلية، تماما مثلما فعلنا حين انتقلنا إلى المشاركة في حراك 22 فبراير في أول جمعة وانسحبنا فورا من الترشح للانتخابات الرئاسية التي دخلناها لمواجهة العهدة الخامسة ومرشح الدولة العميقة. فالسياسة ليست مجرد عواطف وردود أفعال وحالات نفسية انتقامية دون بصيرة ولا رؤية.
    ولكل هذا ندعو الشعب الجزائري إلى المشاركة بكثافة في الاستفتاء والتصويت ب”لا” وذلك هو الصواب وذلك هو الذي يزعج السلطة الحاكمة ويفسد حساباتها، ويفتح لنا آفاق أوسع لاستمرار النضال.