بلغت الستين … فأنا، وفق أعمار الناس، إلى لقاء الله أقرب مما مضى من عمري فكيف سيكون ما بقي منه؟ لو أكملت عمري في ما قضيته، في ما أظن وأعتقد والله أعلم بي من علمي بنفسي، لكنت برحمته سبحانه راضيا بما أنعمه الله علي من خيري الدنيا والدين.
ولكن من أراد الإفلات من النقصان اجتهد في الزيادة، والإندفاع بلا هوادة على طريق الجنان، حتى يأتي الأجل للقاء الديان. في اليوم الذي بلغت فيه الخمسين كنت يومذاك في سوريا، مع ثلة من أخيار الجزائريين والمسلمين من عديد البلدان و من أحرار العالم من غير المسلمين، متجهين إلى غزة ضمن شريان الحياة 5 للمساهمة في كسر حصارها ونجدة أهلها الصامدين المقاومين الأبطال. و في صبيحة هذا اليوم هيأت نفسي للسفر إلى قسنطينة لعيادة أخ عزيز من قادة الحركة ووجوهها، ومن أساطين العمل الخيري في الجزائر رفقة الفاضلين عبد العالي الحسني الشريف وناصر حمدادوش. لم أكن أدري وأنا أهم بالخروج من البيت بأن هذا اليوم هو يوم ميلادي حتى بدأت الرسائل تصلني من الأعزاء والأحباء تدعو لي بالخير والبركة والثبات. اعتبرت أن هذه المصادفة بين يومين لعقد من الزمن شغلت فيهما بأصناف من البر فأل خير فسألت الله إن يختم لي وأنا على عمل صالح على هذا النحو أو أفضل منه.لقد كانت هذه المناسبة فرصة للتأمل في عمر كامل أدرك ستة عقود كاملة فوجدتها عامرة بأفضال الله علي، لا عون على شكر الله عنها إلا منه عز في علاه.كان العقد الأول عقد الطفولة واللعب البريئ والمرح الفسيح، وتشرّب القيم العائلية النبيلة من والدين صالحيْن قدوتيْن بذلا حياتنا لتربيتنا على الأخلاق الفاضلة والصلاة والقرآن واحترام الأهل والجيران والآخرين والجدية في التعلم والدراسة، ضمن أسرة كبيرة محافظة مباركة في شارع العرقوب بالمسيلة معقل الثورة التحريرية وحارات الأبطال ورجال المروءات وعوائل الفضائل حيث تربينا وسطهم على حب الجزائر والاعتزاز بالشهداء والمجاهدين، ولو لا الخوف من الإطالة لكتبت في هذا قصصا كثيرة نافعة مدهشة.ثم كان العقد الثاني: عقد المتوسطة والثانوية حيث أصبح التنافس على النجاح في الدراسة هو سمة الشباب الجادين آنذاك، وبين السنة الأخيرة من مرحلة المتوسطة والسنة الأولى ثانوي كان الالتحاق بالحركة الاسلامية وبداية المسيرة الدعوية الجماعية، وتفاصيل هذا الطريق مشوقة بديعة تحت قيادة صاحب الفضل علينا الشيخ المؤسس محمد مخلوفي وتوجيهات العالم الرباني أحمد بوساق أسأل الله أن يوفقني ذات يوم لأكتب تفاصيل ذلك الزمن البديع ليستفيد منها الأجيال ويعرفوا كيف كان الشباب الدعاة آنذاك. كنا نرى بركة ما نقوم به كأنها حليف مرئي يصنع النجاح إذ كان إقبال طلبة الثانوي لا يتوقف على حلقاتنا و أصبحت المساجد التي كان لا يؤمها سوى الشيوخ تعمر بالشباب يوما بعد يوم. ومن أحسن وأجمل التوفيقات في بلدتنا أننا، نحن الجيل الشبابي الأول الذين تصيدهم الشيخ محمد من الناجحين في الدراسة، هم أول من فُتحت بهم أول ثانوية في المسيلة، وعند أول باكلوريا في دفعة 1978-1979 نجح كل الشباب الملتزم في الباكلوريا فكان ذلك تحولا كبيرا في مختلف العائلات في البلدة، حيث زالت الهواجس من تلك الظاهرة الشبابية الجديدة وعائلات بكاملها التحقت بالحركة الإسلامية ومنها عائلتي. كان والدي رجلا صالحا متدينا وهو من علمني الوضوء والصلاة ولكنه قبل نتائج الباكلوريا كان يمنعني من مخالطة ” الخوانجية” خوفا على دراستي أو تورطي في أمور قد لا يعلمها، ولكن بعد أن نجحت في الباكلوريا اصبح يفرح بهم وبوجودي معهم بل أصبح يأخذ معه أخي الأصغر إلى أبرز مسجد كبرت فيه الصحوة ونمت، مسجد أسامة بن زيد الأول. ومن أبرز الذكريات السياسية التي لا أنساها في العقد الثاني من عمري متابعتي لمناقشات الميثاق الوطني وعمري ست عشرة سنة سنة 1976 . كان الشيخ محمد من القادة الكبار في جماعة الدعوة والتبليغ فكان توجهه أثناء استقطابنا للمساجد تبليغيا حيث كان يأخذنا إلى الجولات الدعوية في الأحياء والقرى والمداشر وفي ولايات أخرى، فتعلمنا من هذه الجماعة في تلك المرحلة قيما تربوية ودعوية جليلة لا تزال تؤثر فينا إلى اليوم، ولكنه، ذكره الله بخير، لم يبق تبليغيا صرفا حيث تأثر بالحركة الإسلامية في الجامعة وبالفكرة والمنهج الإخواني عموما، و ربما كذلك بسبب صحبته مع الشيخ بوساق فكان للبعد الحركي والسياسي حضور قوي في العمل الذي كنا نقوم به. وفي هذا الإطار كان انخراطنا في مناقشة الميثاق الوطني كبيرا بالاعتراض على النهج الاشتراكي و بعض التوجهات العلمانية والحزب الواحد، وأذكر في هذا الصدد حادثتين مهمتين حضرتهما متابعا ومتعلما. الحادثة الأولى مواجهة أستاذ من جبهة التحرير ( وهو رجل فاضل التحق بالحركة الاسلامية في ما بعد) جاء لمسجد من مساجد المدينة يلقي درسا بعد صلاة العصر بتكليف رسمي عن الخيار الاشتراكي والميثاق الوطني فتصدى له شقيقي الأكبر ( وكان هو من عرفني بالشيخ محمد مخلوفي وأخذني إليه لأول لقاء في مسجد سلمان الفارسي) وبعده تكلم الشيخ محمد بحجة مفحمة وشجاعة مدهشة سلطت عليه متابعات أمنية لم يكن أحد يبالي بها. والحادثة الثانية كانت الوقوف ليلا في طوابير المواطنين لمناقشة الميثاق الوطني في مقر البلدية بشجاعة وتصميم ونبل وشهامة رغم حالة الاغتراب التي كنا فيها، والحق يقال أنه رغم المتابعات الأمنية لم يكن في المسيلة تغليظ علينا من السلطات ولا إيذاء، بل كنا نشعر في ذلك الوقت، حيث الحزب الواحد، بكثير من الحرية. لم أكن في ذلك الوقت أستوعب الأمر ولكن فهمت في ما بعد أن تحمل وجودنا من قبل السلطات، وعدم المبالاة برفضنا للتوجه الاشتراكي والحزب الواحد هو صغر سن أغلبنا ولكوننا لم نكن نشكل خطرا على النظام السياسي، وباعتبار أن آباءنا جميعا في جبهة التحرير ومن المجاهدين في الثورة التحريرية.يتبع: العقد الثالث، الرابع، الخامس، السادس عبد الرزاق مقري