الانتخابات الرئاسية الفرنسية ولعبة الدولة العميقة

تمر فرنسا بأزمة اقتصادية كبيرة ضمن أزمة الرأسمالية العالمية التي تجلت بوضوح منذ هزة 2008 بسبب جشع المؤسسات و اللوبيات المالية الربوية الاحتكارية الفاسدة التي سيطرت على اليمين واليسار السياسيين التقليديين فجعلتهما خادمين لسياسة واحدة رأسمالية جشعة تسيطر عليها أقليات نافذة في مؤسسات الدول الغربية. أدت هذه الأزمة في فرنسا إلى تطورات كبيرة على مستوى الأحزاب اليمينية التي نمت فيها تيارات هوياتية مسيحية متطرفة معادية للأقليات ومنكفئة على ذاتها، وعلى مستوى الأحزاب اليسارية التي نمت فيها تيارات علمانية متشددة رافضة للعولمة وهيمنة المؤسسات المالية.
مثل هذه التطورات في أقصى اليمين Marine Le Pen وفي أقصى اليسار J-L Melenchonn، ونجح Francois fillon المتشدد يمينا هزيمة allain juppé المعتدل في الانتخابات الأولية للحزب الجمهوري ، كما نجح Benoît Hamon الأكثر تشددا يسارا هزيمة Valls الأكثر اقترابا لوسط اليمين في الحزب الاشتراكي.
كانت المؤسسات و اللوبيات المالية على علم بحالة السخط وعدم الرضا لدى المجتمع الفرنسي بسبب الأزمة الاقتصادية وآثارها الاجتماعية، وكانت تلاحظ بدقة التطورات الجارية على مستوى الأحزاب التي تتداول عادة على السلطة، وكانت تتوقع أن الأمر يمكن أن يؤدي في الانتخابات إلى خيارات في الدور الثاني أو من الدور الأول كلها سيئة أو على الأقل مضعفة لنفوذ المؤسسات واللوبيات المالية. ولمواجهة هذه التحولات اعدت بديلها بنفسها فكان Emanuel Macron هو خيارها . ولأن إعداد البديل من طرف القوى الخفية، أو ما يسمى بالدولة العميقة، يبدأ – عادة – بالتحكم في بلاط أصحاب القرار وفي قضايا المال والاقتصاد دفع Emanuel Macron مبكرا ليكون مديرا لديوان رئيس الجمهورية Hollande ثم وزيرا للاقتصاد.
وأثناء إعداد البديل كان لا بد من التخلص من المنافسين الأقوياء الذين تنتجهم الأحزاب التقليدية والتي ضعفت فلم تصبح نافعة كما لم يصبح متحكما فيها. لم يكن المنافس الخطر هي Marine Le Pen، لأنها في كل الأحوال ستسقط في الدور الثاني مع أي مرشح، بل ربما تؤدي دورا إيجابيا كفزاعة لتمرير خطط المؤسسات المالية. كان الهدف الأول الذي يجب إسقاطه هو Francois fillon الذي يميل إلى اللوبي المسيحي الكاثوليكي الذي يحمل في أعماقه العداء للأقليات ومنها الأقلية اليهودية النافذة، فتكفلت به التسريبات الممنهجة عن قصص فساد قديمة ضخمتها المؤسسات الإعلامية التي تسيطر عليها اللوبيات المالية. أما عن اليسار الذي كان دائما هو حصن الأقليات اليهودية والبروتستنتية واللادينيبن منذ الثورة الفرنسية في القرن الثامن عشر إلى أن أصبح كذلك بالنسبة للعرب والمهاجرين في الثمانينيات ضمن نهج لائكي متشدد لم يعد قادرا على حمل مصالح المؤسسات المالية بسبب حالة الضعف الشديدة في عهد Hollande الذي ذهب وشريكه المتصهين Valls بعيدا نحو اليمين وبسبب عودة تيار يساري غاضب داخله مثله Benoît Hamon في الانتخابات الرئاسية. لم يكن القضاء على هذا الهدف الثاني صعبا. ما لم تصبح مؤسسة الحزب الاشتراكي تفعله ستفعله القوى التقليدية التي كانت نافذة فيه، ولكن من خارج الحزب، وكان “الجوكر” لهذه الخطة هو Emanuel Macron، ابن الحزب الاشتراكي المتجه يمينا نحو ما تريده المؤسسات المالية وتمثلت الخطة في ما يلي:
– دعم المؤسسات المالية والشركات الكبرى ل Macron من حيث التمويل.
– التلميع الإعلامي مع التركيز على الصورة الشخصية المتمثلة في خصائص الشباب والوسامة والتدريب المركز على الخطابة ولغة الجسد.
– كسب جزء كبير من اليمين من خلال البرنامج الليبرالي الواضح المعالم.
– كسب الأقليات الخائفة، خصوصا المسلمة والافريقية، بالتركيز الشديد على الاعتراف بالتنوع والهويات ضمن الجمهورية الفرنسية الواحدة، علما بأن هذه الأقليات كانت تلجأ للحزب الاشتراكي ليس بسبب خطابه اللاعنصري فقط، ولكن بسبب سياساته الاجتماعية كذلك التي لا يحملها Macron.
– تفريغ الحزب الاشتراكي من محتواه البشري وتوجيه الأغلبية الساحقة من قياداته نحو Macronn، خصوصا الوجوه المهمة الفاقعة، وأكثرها معروف بتوجهاته الصهيونية وانتمائه للماسونية.
كانت الأمور بهذه الترتيبات سهلة ميسورة وكان مرور مرشح المؤسسات المالية للدور الثاني مضمونا ليفرش له البساط الأحمر نحو قصر الإليزيه. غير أن طارئا كبيرا وقع لم يكن في الحسبان وهو الصعود القوي لJ-L Melenchon، وقد تسبب في صعوده أمران:
– حالة الغضب لدى جزء مهم من الناخبين الذين يصوتون على اليسار عادة و الذين يئسوا من الحزب الاشتراكي إلى درجة أن محاولة التصحيح التي قام بها Hamon لم تجد نفعا فاتجهوا نحو من مثل لهم اليسار حقا.
– التطور الكبير الذي قام به J-L Melenchonn لتحسين صورته من حيث السلوك والخطاب والمظهر ، إذ استطاع أن يعالج الصورة النمطية التي ألصقها به الإعلام وهو يسير نحو فرض نفسه وأفكاره ومعاركه الشديدة في انتخابات عديدة سابقة.
– دخوله في مساحة مهمة من الشرائح التي كسبتها Marine Le Penn في السنوات الأخيرة المتمثلة في العمال والرافضين للهيمنة الأوربية والمؤسسات المالية ولكن باعتدال ودون عنصرية.
حين صعد J-L Melenchonn في سبور الآراء ومن خلال تجمعاته الانتخابية الكبيرة أصبح يمثل توترا كبيرا لدى المؤسسات المالية ولدى التيار اليميني، والتيار الصهيوني بشكل خاص إلى درجة أن كبير الصهاينة في فرنسا Bernard-Henri Lévy قال: “لو صعد Melenchon الدور الثاني سأغادر فرنسا”. إن هذا التصريح منطقي عبر عن خوف حقيقي من سيناريو دور ثاني ” Marine Le Pen J-L Melenchon” يكون كارثيا على المعادلات السياسية والمالية التقليدية التي تجد فيها اللوبيات الصهيونية راحة كبيرة ونفوذا لا حد له. لهذه الأسباب أصبح J-L Melenchon هدفا ثالثا لا بد من الإطاحة به فلا يمر إلى الدور الثاني وكانت الوسائل التي استعملت ضده ما يلي:
– محاولة استيعاب المتعاطفين معه في وسائل الأعلام وتصريحات السياسيين بالاعتراف بأدائه الجيد في الحملة الانتخابية ولكن بالتخويف الشديد من برنامجه الاقتصادي اليساري ووصفه بأنه كارثي على فرنسا لو طبق مع التذكير المستمر بالويلات التي جرتها الشيوعية على البلدان التي طبقت فيها، بالرغم من المجهودات الكبيرة التي بذلها Melenchon ليبعد نفسه عن “اللون الأحمر”.
– التفات الإعلام بشكل غير مسبوق لمن يعرفون ب” المترشحين الصغار” وتسليط الضوء عليهم علما بأن أغلبهم من التيار اليساري المتطرف ومن التروتسكيين الذين يأكلون بالضرورة من وعاء Melenchon.
– استغلال حالة الرعب السائدة بسبب الإرهاب الذي يتهم به المسلمون في أجواء الحملة لضرب أطروحة “اللا إسلاموفوبية” التي يتميز بها Melenchon . وخلافا لما يعتقده الكثير: إن الذي استفاد من العملية الإرهابية في باريس ثلاثة أيام قبل الانتخابات هو Macron وليس Marine Le Pen. لأن هذه الأخيرة صاعدة للدور الثاني في كل الأحوال،وأما Macron فإنه لا يصعد إلا إذا تخلف fillon الذي يصب رد فعل الناخبين على العملية الإرهابية للأكثر تطرفا وهي Marine Le Pen، وإذا تخلف كذلك Melenchon الذي يخسر أصواتا كثيرة جراء العملية الإرهابية من أولئك الخائفين من الإرهاب بسبب رفضه تجريم المسلمين.
إذن سيكون Macronn رئيسا للجمهورية الفرنسية وفق كل التوقعات، وسينجح المخطط الرهيب الذي أدارته المؤسسات المالية الرأسمالية واللوبيات الصهيونية التي في عمقها، ولكن فرنسا لن تنجح، فالنظام السياسي والنمط الاقتصادي الذي يشتغل لصالح الأقليات “المرفحة ” على حساب أغلبية المواطنين هي التي ستستمر، وسيكون حكم Macron هو حكم المؤسسات المالية وليس حكمه، سيكمل مهمة Sarközy ومن بعده Hollande مع بعض الترقيعات التي لن تجدي نفعا ، وسيكون جهدهم الكبير هو أن يحلوا مشاكلهم، ضمن الذهنية الاستعمارية، على ظهر الشعوب المستضعفة والغافلة في أفريقيا الشمالية وغربها بالاعتماد على حكام، إما عملاء بالأصالة، أو جرتهم طموحاتهم السلطوية للعمالة رغما عن شعوبهم. وهذا هو السياق الذي يجب أن نفهم فيه زيارة Macron المرشح للجزائر، هو عمل استباقي ضمن خطة توليته ثم دعمه بعد أن يكون رئيسا. غير أن ثمة زاوية أخرى يجب أن ننظر منها ، وهو أن هذه الانتخابات أخرجت الشعب الفرنسي ممزقا بنتائج انتخابية حادة ومتقاربة جدا، ويعد عدم دعوة Melenchon للتصويت لصالح Macron في الدور الثاني من أكبر المؤشرات السلبية في تفاعلات الخطة، وحتى إن استفاد Macron من نسبة عالية من التصويت في الدور الثاني في سياق التصويت العقابي ضد Marine Le Pen فإن ذلك لن يحفظ المجتمع الفرنسي من التمزق والتوتر لأن المشكلة مرتبطة بالاقتصاد ولن يستطيع Macron حل هذه المشكلة بل سيفاقمها، وستكون التيارات المتشددة في كل الاتجاهات أكثر تشددا وسيعمل الجميع على أن ندفع نحن فواتيرهم، لذلك الحذر الحذر من الذهنية الاستعمارية بشقيها الناعم والفظ، ولن يقدر على المحافظة على سيادة الجزائر وخيراتها ومواردها ومصالحها ضمن هذا الوضع الإقليمي الصعب إلا الأحزاب والشخصيات الوطنية الصادقة، وعلى هؤلاء أن يعرفوا بعضهم وأن يكونوا جميعا: معا لجزائر الهناء والنماء.