جاءت مظاهرات 11 ديسمبر ضمن سياق نستخلص منه درسا كبيرا في كفاحنا السياسي.
جاء المستوطنون وجنرالاتهم في الجزائر المحتلة بالجنرال ديغول سنة 1958 ليحكم فرنسا من جديد ويخلصهم من ثورة المجاهدين الجزائريين التي شملت كل الجزائر بعد عمليات فك الخناق على الأوراس في 20 أوت 1956 . يعتبر الجنرال ديغول صاحب الكتاب الاستراتيجي “حد السيف” بطلا قوميا عند الفرنسيين أعاد لهم شرفهم بعد سقوط باريس في يد هتلر واستسلامهم للألمان في الحرب العالمية الثانية بتنظيمه المقاومة الفرنسية وانضمامه للحلفاء واسترجاع بلده من الاحتلال النازي. خلافا لهذه الخلفية الثورية والكفاح من أجل الحرية لبلده عمل ديغول على كسر الثورة التحريرية وترسيخ إلحاق الجزائر بفرنسا نهائيا، فعمل باستراتجيتين متكاملتين: استراتيجية الإغراء من خلال ” مشروع قسنطينة” لتحسين وضعية الجزائريين المادية، واستراتيجية الحرب والتدمير للثورة ومعاقلها ومناصريها فأنزل للجزائر ترسانة عسكرية من الطائرات والآليات والجنود والخطط والعمليات المكثفة بشكل غير مسبوق وبمساندة ضخمة من الحلف الأطلسي.
أكد لي المجاهدون مشافهة بأن ديغول استطاع أن يلحق ضررا كبيرا بالثورة إلى حد توقفت فيه العمليات الجهادية تقريبا. لقد كاد ديغول أن يحقق هدفه، فلو توقفت الثورة لانكسرت إرادة الجزائريين ولاستمر الاحتلال إلى سنوات طويلة أخرى. غير أن الذي أنقذ الموقف هو الشعب الجزائري بانتفاضة 11 ديسمبر. انتبه قادة الثورة بأن الرسالة يجب أن يأخذها ديغول كاملة، فحواها أن الشعب الجزائري مصمم على الاستقلال مهما كان الثمن، فلا الإغراء يثنيه عن مطلب الاستقلال ولا التدمير العسكري يخيفه من استمراره في طريق الحرية، وأن الذي يجب أن يجيب ديغول هذه المرة هو شعب بكامله وليس المجاهدون الذي في الجبال فكان تنظيم المظاهرات التاريخية في مثل هذا اليوم من سنة 1960.
لقد كانت هذه المظاهرات حاسمة في تصحيح فهم ديغول للقضية الجزائرية، لقد علم بأن القضية ليست قضية متمردين على السلطة الفرنسية، بل هي إرادة شعب بكامله، وأن هذا الشعب ستهزم إرادته إرادة فرنسا، لأن هذا الشعب يدافع عن أرضه الجزائر، وأن الفرنسيين مغتصبون يقاتلون من أجل قضية ظالمة ستخسر لا محال، وأن الشعب الذي خرج للشوارع عن بكرة أبيه هو قوة المجاهدين والفدائيين والمسبلين الذين يحملون السلاح في الجبال وفي المدن، وأن قوة الحديد والنار مهما عظمت لا تهزم طالب حق أبدا. لم يهب ديغول شيئا للجزائر كما يقول أبناؤه من أذيال الاستعمار، بل اندحر وانهزم، وما انخرط في مسار المفاوضات التي انتهت بالاستقلال إلا حينما رأى إرادة الشعب الكاسحة في 11 ديسمبر. الفرق بينه وبين المستعمرين الذين حاولوا الانقلاب عليه حين أعلن ضرورة خروج فرنسا من الجزائر أنه كان أذكى منهم في قراءة إرادة الشعب الجزائري حيث علم أن نتيجة البقاء في الجزائر ليس الهزيمة على الأرض المحتلة فقط، بل كذلك تقهقر فرنسا ذاتها في أرضها، وأن التفاوض على الخروج هو كذلك لمصلحة فرنسا من هذه الزاوية، و للمحافظة كذلك على بعض الامتيازات وهو للأسف الشديد ما تحقق له ولبلده.
لا شك أن مظاهرات 11 ديسمبر هي من أكبر الأسباب التي أدت إلى الاستقلال، ولكن هي قبل ذلك المظاهرات التي حمت الثورة وأنقذت النخب حين تعثرت.
إن الدرس العظيم الذي نستخلصه في كفاحنا السياسي أن مساندة الشعب لأي قضية هو الذي ينجحها، وأن الذي يغلب الأنظمة سواء كانت استعمارية أم استبدادية إنما هو الشعب، وأما النخب عبر مختلف منظماتها وأحزابها فإن الذي عليها القيام به هو أن تبذل جهدا كبيرا لتوعية هذا الشعب وتحميله المسؤولية ونيل ثقته بالثبات والتضحية والصبر حتى إذا فهم الشعب القضية ووثق بمن يحملها يكون هو الطاقة العظمى التي تتحرك بها النخب. يكون الدعم للنخب من عموم الشعب عندئذ منظما ودائما وفاعلا في مختلف المجالات، فإذا تعقدت أوضاع النخبة في هذه المرحلة، و ضاقت عليهم الأرض بما رحبت وتوقف عملهم لعظمة القمع وشدة الاستبداد وساءت أوضاع هؤلاء الناس الذين أصبحوا واعين مدركين، خرج الشعب للشارع سلميا يأخذ أمره بيده مع التقدير التام للنخب ولما بذلوه من قبل، وحينما يتحقق النصر يكون الانتقال إلى وضع جديد لمصلحة الشعب ونخبه وللبلد كله في سلاسة ورشاد وتوفيق وسداد.
د.عبد الرزاق مقري.